الوجه الثاني: أنه حال من فاعل "كفروا" وبه بدأ وهو فاسد ظاهرا; لأنه مضارع مثبت، وما كان كذلك لا تدخل عليه الواو، وما ورد منه على قلته مؤول فلا يحمل عليه القرآن، وعلى هذين القولين فالخبر محذوف. واختلفوا في موضع تقديره: فقدره أبو البقاء. بعد قوله ابن عطية "والباد" أي: إن الذين كفروا خسروا أو هلكوا ونحو ذلك. وقدره بعد قوله الزمخشري "والمسجد [ ص: 256 ] الحرام" أي: إن الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم. وإنما قدره كذلك لأن قوله: "نذقه من عذاب أليم" يدل عليه.
إلا أن الشيخ قال في تقدير بعد الزمخشري المسجد الحرام: "لا يصح"، قال: "لأن "الذي" صفة للمسجد الحرام، فموضع التقدير هو بعد "الباد" يعني: أنه يلزم من تقديره الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي، وهو خبر "إن"، فيصير التركيب هكذا: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم الذي جعلناه للناس. أن ينفصل عن هذا الاعتراض بأن "الذي جعلناه" لا نسلم أنه نعت للمسجد حتى يلزم ما ذكر، بل نجعله مقطوعا عنه نصبا أو رفعا. وللزمخشري
ثم قال الشيخ: "لكن مقدر أحسن من مقدر الزمخشري ابن عطية; لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ، لحظ من جهة المعنى; لأن من أذيق العذاب خسر وهلك". وابن عطية
الوجه الثالث: أن الواو في "ويصدون" مزيدة في خبر "إن" تقديره: إن الذين كفروا يصدون. وزيادة الواو مذهب كوفي تقدم بطلانه، وقال "وهذا مفسد للمعنى المقصود". قلت: ولا أدري فساد المعنى من أي جهة؟ ألا ترى أنه لو صرح بقولنا: إن الذين كفروا يصدون لم يكن فيه فساد معنى. فالمانع إنما هو أمر صناعي عند أهل ابن عطية: البصرة لا معنوي. اللهم إلا أن يريد معنى خاصا [644/أ] يفسد لهذا التقدير فيحتاج إلى بيانه.
[ ص: 257 ] قوله: "الذي جعلناه" يجوز جره على النعت أو البدل أو البيان، والنصب بإضمار فعل، والرفع بإضمار مبتدأ. و "جعل" يجوز أن يتعدى لاثنين بمعنى صير، وأن يتعدى لواحد.
والعامة على رفع "سواء" وقرأه حفص عن بالنصب هنا وفي الجاثية: "سواء محياهم". ووافق على الذي في الجاثية الأخوان، وسيأتي توجيهه. فأما على قراءة الرفع فإن قلنا: إن جعل بمعنى صير كان في المفعول الثاني أوجه، أحدها: - وهو الأظهر- أن الجملة من قوله "سواء العاكف فيه" هي المفعول الثاني، ثم الأحسن في رفع "سواء" أن يكون خبرا مقدما، والعاكف والبادي مبتدأ مؤخر. وإنما وحد الخبر وإن كان المبتدأ اثنين; لأن سواء في الأصل مصدر وصف به. وقد تقدم هذا أول البقرة. وأجاز بعضهم أن يكون "سواء" مبتدأ، وما بعده الخبر. وفيه ضعف أو منع من حيث الابتداء بالنكرة من غير مسوغ، ولأنه متى اجتمع معرفة ونكرة جعلت المعرفة المبتدأ. وعلى هذا الوجه -أعني كون الجملة مفعولا ثانيا- فقوله "للناس" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بالجعل أي: جعلناه لأجل الناس كذا. والثاني: أنه متعلق بمحذوف، على أنه حال من مفعول "جعلناه" ولم يذكر عاصم فيه على هذا الوجه غير ذلك وليس معناه متضحا. أبو البقاء
الوجه الثاني: أن "للناس" هو المفعول الثاني. والجملة من قوله "سواء [ ص: 258 ] العاكف" في محل نصب على الحال: إما من الموصول، وإما من عائده. وبهذا الوجه بدأ وفيه نظر; لأنه جعل هذه الجملة التي هي محط الفائدة فضلة. أبو البقاء.
الوجه الثالث: أن المفعول الثاني محذوف، قال "والمعنى: الذي جعلناه للناس قبلة ومتعبدا. فتقدير ابن عطية: هذا مرشد لهذا الوجه. إلا أن الشيخ". قال "ولا يحتاج إلى هذا التقدير، إلا إن كان أراد تفسير المعنى لا الإعراب. فيسوغ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني، فلا يحتاج إلى هذا التقدير. وإن جعلناها متعدية لواحد كان قوله "للناس" متعلقا بالجعل على العلية. وجوز فيه ابن عطية وجهين آخرين، أحدهما: أنه حال من مفعول "جعلناه". والثاني: أنه مفعول تعدى إليه بحرف الجر. وهذا الثاني لا يتعقل، كيف يكون "للناس" مفعولا عدي إليه الفعل بالحرف؟ هذا ما لا يعقل. فإن أراد أنه مفعول من أجله فهي عبارة بعيدة من عبارة النحاة. أبو البقاء
وأما على قراءة حفص: فإن قلنا: "جعل" يتعدى لاثنين كان "سواء" مفعولا ثانيا. وإن قلنا يتعدى لواحد كان حالا من هاء "جعلناه" وعلى التقديرين: فالعاكف مرفوع به على الفاعلية; لأنه مصدر وصف به فهو في قوة اسم الفاعل المشتق تقديره: جعلناه مستويا فيه العاكف. ويدل عليه [ ص: 259 ] قولهم: "مررت برجل سواء هو والعدم". فـ "هو" تأكيد للضمير المستتر فيه، و "العدم" نسق على الضمير المستتر ولذلك ارتفع. ويروى: "سواء والعدم" بدون تأكيد وهو شاذ.
وقرأ وجماعة "سواء" نصبا، "العاكف" جرا. وفيه وجهان، أحدهما: أنه بدل من "الناس" بدل تفصيل. والثاني: أنه عطف بيان. وهذا أراد الأعمش بقوله "عطفا على الناس" ويمتنع في هذه القراءة رفع "سواء" لفساده صناعة ومعنى; ولذلك قال ابن عطية "وسواء على هذا نصب لا غير". أبو البقاء:
وأثبت ياء "والبادي" وصلا ووقفا، وأثبتها ابن كثير أبو عمرو وصلا وحذفاها وقفا. وحذفها الباقون وصلا ووقفا وهي محذوفة في الإمام. وورش
قوله: "ومن يرد فيه بإلحاد" فيه أربعة أوجه، أحدها: أن مفعول "يرد" محذوف، وقوله: "بإلحاد بظلم" حالان مترادفتان. والتقدير: ومن يرد فيه مرادا ما، عادلا عن القصد ظالما، نذقه من عذاب أليم. وإنما حذف ليتناول كل متناول. قال معناه والثاني: أن المفعول أيضا محذوف تقديره: ومن يرد فيه تعديا، و "بإلحاد" حال أي: ملتبسا بإلحاد. و "بظلم" بدل بإعادة الجار. الثالث: أن يكون "بظلم" متعلقا بـ "يرد"، والباء للسببية [ ص: 260 ] أي بسبب الظلم و "بإلحاد" مفعول به. والباء مزيدة فيه كقوله: "ولا تلقوا [644/ب] بأيديكم" [وقوله:] الزمخشري.
3380 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لا يقرأن بالسور
وإليه ذهب وأنشد أبو عبيدة، للأعشى:
3381 - ضمنت برزق عيالنا أرماحنا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي: ضمنت رزق. ويؤيده قراءة "ومن يرد إلحاده بظلم". قال الحسن أراد إلحاده فيه فأضافه على الاتساع في الظرف كـ "مكر اليل" ومعناه: ومن يرد أن يلحد فيه ظالما. الرابع: أن يضمن "يرد" معنى يتلبس، فلذلك تعدى بالباء أي: ومن يتلبس بإلحاد مريدا له. الزمخشري:
[ ص: 261 ] والعامة على "يرد" بضم الياء من الإرادة. وحكى الكسائي أنه قرئ "يرد" بفتح الياء. وقال والفراء "من الورود ومعناه: من أتى فيه بإلحاد ظالما". الزمخشري: