الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب جامع صفاته صلى الله عليه وسلم.

                                                                            3704 - أخبرنا أبو القاسم علي بن محمد بن علي الكوفي، أنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد الأنباري، قراءة عليه في داره، أنا أبو بكر محمد بن الحسن بن زكريا الباذنجاني، حدثني أبو جعفر أحمد بن الحسن بن نصر، وأبو العباس عبيد الله بن جعفر بن أعين، قالا: نا مكرم بن محرز بن المهدي بن عبد الرحمن بن عمرو بن خويلد الخزاعي ، ثم الكعبي، حدثني أبي محرز بن مهدي، عن حزام بن هشام بن حبيش، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتيل البطحاء يوم الفتح، عن أبيه، عن جده جبيش بن خالد، وهو أخو عاتكة بنت خالد، وكنيتها أم معبد، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخرج من مكة [ ص: 262 ] خرج مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر، ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة، ودليلهما عبد الله بن الأريقط الليثي، مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة تحتبي بفناء الخيمة، ثم تسقي وتطعم، فسألوها لحما وتمرا ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أتأذنين لي أن أحلبها، قالت: بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا، فاحلبها، فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح بيده ضرعها، وسمى الله جل ثناؤه، ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه، ودرت، واجترت، فدعا بإناء يربض الرهط، فحلب فيه ثجا حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم أراضوا، ثم حلب فيه ثانيا بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها وبايعها، وارتحلوا عنها، فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا، يتساوكن هزلى [ ص: 263 ] ضحى، مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن، عجب، قال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد، والشاء عازب حيال لا حلوب في البيت؟ قالت: لا والله، إنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا.

                                                                            قال: صفيه لي يا أم معبد، قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، لم تعبه نحلة، ولم تزر به صقلة، وسيم قسيم، في عينه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صهل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزج أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأجلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة لا يأس من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال: أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محشود محفود، لا عابس ولا مفند.

                                                                            قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى [ ص: 264 ] ذلك سبيلا، وأصبح صوت بمكة عاليا يسمعون الصوت، ولا يدرون من صاحبه، وهو يقول:


                                                                            جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين قالا خيمتي أم معبد     هما نزلاها بالهدى واهتدت به
                                                                            فقد فاز من أمسى رفيق محمد     فيا لقصي ما زوى الله عنكم
                                                                            به من فعال لا يجازى وسؤدد     ليهن بني كعب مقام فتاتهم
                                                                            ومقعدها للمؤمنين بمرصد     سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
                                                                            فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد     دعاها بشاة حائل فتحلبت
                                                                            عليه صريحا ضرة الشاة مزبد     فغادرها رهنا لديها لحالب
                                                                            يرددها في مصدر ثم مورد

                                                                            [ ص: 265 ]

                                                                            قوله: " برزة " أي: هي كهلة لا تحتجب احتجاب الشواب، وقوله: مرملين: أي: نفد زادهم، يقال: أرمل الرجل: إذا ذهب طعامه.

                                                                            وقوله: " مسنتين "، أي: أصابهم القحط، يقال: أسنت القوم، فهم مسنتون، ويروى: مشتين، أي: أصابتهم المجاعة، وتجعل العرب الشتاء مجاعة.

                                                                            ويقال: مشتين: داخلين في الشتاء، يقال: أشتى القوم: إذا دخلوا في الشتاء، وأصافوا: إذا دخلوا في الصيف.

                                                                            وكسر الخيمة: جانب منها، وفيه لغتان: كسر وكسر، مثل نفط ونفط، وبزر وبزر.

                                                                            وقولها: " خلفها الجهد "، أي: الهزال، يقال: جهد الرجل، فهو مجهود: إذا هزل.

                                                                            وقوله: فتفاجت، أي: فتحت ما بين رجليها للحلب.

                                                                            قوله: " دعا بإناء يربض الرهط "، أي: يرويهم حتى يثقلوا فيربضوا ويناموا، يقال: أربضت الشمس: إذا اشتد حرها حتى تربض الوحش في كناسها.

                                                                            والرهط: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وكذلك النفر، [ ص: 266 ] والعصبة: ما بين ذلك إلى الأربعين.

                                                                            وقوله: " فحلب فيه ثجاجا "، فالثج: السيلان، قال الله سبحانه وتعالى: ( وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ) أي: سيالا.

                                                                            وقوله: حتى علاه البهاء، يريد علا الإناء بهاء اللبن، وهو وبيض رغوته، تريد أنه ملأه.

                                                                            وقوله: " ثم أراضوا "، أي: شربوا عللا بعد نهل، مأخوذ من الروضة، وهو الموضع الذي يستنقع فيه الماء، يريد شربوا حتى رووا فنقعوا بالري، يقال: أراض الوادي، واستراض: إذا استنقع فيه الماء، ويقال: حتى أراضوا، أي: ناموا على الإراض، وهو البساط.

                                                                            وقوله: " يتساوكن هزلى " أي: تتمايل من الضعف والهزال، وفي رواية: " تشاركن هزلى " أي: عمهن الهزال، فاشتركن فيه، وفي رواية: " لا نقي بهن "، والنقي: المخ.

                                                                            وقوله " والشاء عازب "، أي: بعيد في المرعى، يقال: عزب فلان، أي: بعد، والحيال: التي لم تحمل، يقال: حالت الشاة تحول حيالا: إذا لم تحمل بعد الضراب.

                                                                            وقولها: " أبلج الوجه "، تريد مشرق الوجه مضيئه، يقال: تبلج الصبح وانبلج: إذا أسفر، ولم ترد بلج الحاجب، ألا ترى أنها تصفه بالقرن.

                                                                            وقولها: " لم تعبه نحلة "، أي: دقة من نحول الجسم، ويروى: " ثجلة " بالثاء المثلثة والجيم، وهو عظم البطن، يقال: رجل أثجل، أي: عظيم البطن، وكذلك العثجل.

                                                                            وقولها: " ولم تزر به صقلة " أي: دقة، وقيل: أرادت به [ ص: 267 ] أنه لم يكن منتفخ الخاصرة جدا، ولا ناحلا جدا، ولكن كان رجلا ضربا، والصقلة: الخاصرة، يقال: فرس صقل: إذا كان طويلها، وهو عيب، تريد أنه رجل ليس بناحل ولا منتفخ، ويروى: لم تزر به صعلة بالعين وهي صغر الرأس، يقال للظليم: صعل لصغر رأسه.

                                                                            وقولها: " وسيم قسيم "، فالوسيم: الحسن الوضي، يقال: وسيم بين الوسامة، والقسيم: الحسن أيضا، والقسامة: الحسن.

                                                                            والدعج: السواد في العين وغيرها.

                                                                            وقولها: وفي أشفاره وطف أي: طول، يقال: وطف، فهو أوطف، ويروى عطف وغطف بالعين والغين جميعا، والمراد منه الطول أيضا.

                                                                            وقولها: " وفي صوته صهل " أي: حدة وصلابة، ومنه صهيل الخيل، وفي رواية صحل، أي: بحة، وهو ألا يكون حاد الصوت، وذلك حسن إذا لم يكن شديدا.

                                                                            وقولها: " وفي عنقه سطع ".

                                                                            أي: طول، يقال: رجل أسطع، وعنق سطعاء: إذا كانت منتصبة، ومنه قيل للصبح أول ما ينشق مستطيلا: سطع يسطع.

                                                                            وقولها: " أزج أقرن " فالزج في الحاجب: تقوس فيها مع طول في أطرافها، وسبوغ فيها، والقرن: التقاء الحاجبين.

                                                                            ويروى في صفته عليه السلام خلافه عند هند بن أبي هالة: أزج الحواجب، سوابغ من غير قرن.

                                                                            وقولها: " إن تكلم سما "، تريد علا برأسه، وارتفع من جلسائه.

                                                                            وقولها في صفة منطقه: " فصل "، أي: بين.

                                                                            " لا نزر ولا هذر " [ ص: 268 ] تريد: وسط ليس بقليل ولا كثير، فالنزر: القليل، والهذر: الكثير، وهو معنى صفته في حديث هند: " يتكلم بجوامع الكلم فصل لا فضول ولا تقصير ".

                                                                            وقولها: " لا بأس من طول "، معناه: أن قامته لا يؤيس من طولها، لأنه كان إلى الطول أقرب، أي: ليس بالطويل الذي يؤيس من مطاولته لإفراط طوله، كما في حديث أنس " ليس بالطويل البائن ولا بالقصير ".

                                                                            وقولها: " ولا تقتحمه عين من قصر "، أي: لا تحتقره ولا تزدريه فيتجاوز منه إلى غيره، يقال: اقتحمت فلانا عيني: إذا احتقرته واستصغرته.

                                                                            وقولها: " محشود محفود "، معناه: أن أصحابه يجتمعون عليه، ويخدمونهم، ويسرعون في طاعته، يقال: رجل محشود عنده حشد من الناس، أي: جماعة، والمحفود: المخدوم، والحفدة: الخدم.

                                                                            قال الله سبحانه وتعالى: ( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ) أي: هم بنون، وهم خدم، ويقال: الحفدة الأعوان، فأصله من حفد يحفد: إذا أسرع في سيره.

                                                                            وقولها: " لا عابس "، معناه: غير عابس الوجه.

                                                                            وقولها: " ولا مفند " وهو الذي لا فائدة في كلامه لخرف أصابه، قال الله سبحانه وتعالى إخبارا عن يعقوب عليه السلام: ( لولا أن تفندون ) أي: تخرفوني، تقولون: قد خرفت، وفي الحديث: " ما ينتظر أحدكم إلا هرما مفندا " وفي رواية " ولا معتد " من الاعتداء، [ ص: 269 ] وهو الظلم.

                                                                            وقول الهاتف في الشعر: " فيا لقصي ما زوى الله عنكم ".

                                                                            أي: باعد ونحى عنكم من الخير والفضل.

                                                                            وقوله: " فتحلبت عليه صريحا "، ويروى: فتحلبت له بصريح، والصريح: اللبن الخالص الذي لم يمذق، ومنه قولهم: صرح فلان بالأمر: إذا كشفه وأوضحه.

                                                                            والضرة: لحم الضرع، أي: تحلبت ضرة الشاة بلبن مزبد، وقوله: " فغادره رهنا لديها لحالب "، يريد أنه ترك الشاة مرتهنة بأن تدر.

                                                                            والصوت الذي سمعوا بمكة بالشعر: صوت بعض مسلمي الجن، أقبل من أسفل مكة، والناس يتبعونه يسمعون الصوت، وما يرونه حتى خرج بأعلى مكة، قالت أسماء: فلما سمعناه، عرفناه حيث وجه رسول الله، وإن وجهه إلى المدينة.

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية