الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            3514 - أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، ومحمد بن العارف، قالا: أخبرنا أبو بكر الحيري ، نا الأصم.

                                                                            ح وأخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، نا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، أنا الربيع، أنا الشافعي ، أنا ابن عيينة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن تميم الداري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، لله ولكتبه ولنبيه، ولأئمة المسلمين وعامتهم".

                                                                            هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم، عن محمد بن عباد المكي، عن سفيان بن عيينة .

                                                                            قال أبو سليمان الخطابي : النصيحة كلمة جامعة يعبر بها عن جملة [ ص: 94 ] هي إرادة الخير، وليس يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة تحصرها، وتجمع معناها غيرها، كما قالوا في الفلاح: ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه، ولذلك قالوا: أفلح الرجل: إذا فاز بالخير الدائم الذي لا انقطاع له، وأصل النصح في اللغة: الخلوص، يقال: نصحت العسل: إذا خلصته من الشمع، ويقال: هو مأخوذ من: نصح الرجل ثوبه، أي: خاطه، شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بفعل الخياط فيما يسد من خلل الثوب.

                                                                            وقوله عليه السلام: " الدين النصيحة "، يريد عماد أمر الدين إنما هو النصيحة، وبها ثباته، كقوله عليه السلام: " الأعمال بالنيات "، أي: صحتها وثباتها بالنية.

                                                                            فمعنى نصيحة الله سبحانه وتعالى: الإيمان به، وصحة الاعتقاد في وحدانيته، وترك الإلحاد في صفاته، وإخلاص النية في عبادته، وبذل الطاعة فيما أمر به، ونهى عنه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، والاعتراف بنعمه، والشكر له عليها، وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصيحة نفسه لله، والله غني عن نصح كل ناصح.

                                                                            أما النصيحة لكتاب الله، فالإيمان به، وبأنه كلام الله ووحيه وتنزيله، لا يقدر على مثله أحد من المخلوقين، وإقامة حروفه في التلاوة، والتصديق بوعده ووعيده، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه.

                                                                            وأما النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم، فهي التصديق بنبوته، وقبول ما جاء به، ودعا إليه، وبذل الطاعة له فيما أمر ونهى، والانقياد له فيما حكم [ ص: 95 ] وأمضى، وترك التقديم بين يديه، وإعظام حقه، وتعزيزه وتوقيره ومؤازرته ونصرته وإحياء طريقته في بث الدعوة، وإشاعة السنة، ونفي التهمة في جميع ما قاله ونطق به، كما قال جل ذكره: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) ، وقال عز اسمه: ( وما ينطق عن الهوى ) .

                                                                            وأما النصيحة لأئمة المسلمين، فالأئمة هم الولاة من الخلفاء الراشدين فمن بعدهم ممن يلي أمر هذه الأمة، ويقوم به، فمن نصيحتهم بذل الطاعة لهم في المعروف، والصلاة خلفهم، وجهاد الكفار معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج عليهم بالسيف إذا ظهر منهم حيف، أو سوء سيرة، وتنبيههم عند الغفلة، وألا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى بالصلاح لهم.

                                                                            وقد يتأول ذلك أيضا في الأئمة الذين هم علماء الدين، فمن نصيحتهم قبول ما رووه إذا انفردوا، وتقليدهم ومتابعتهم على ما رووه إذا اجتمعوا.

                                                                            وأما نصيحة المسلمين، فجماعها إرشادهم إلى مصالحهم من تعليم ما يجهلونه من أمر الدين، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، والترحم على صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، كما أرشد الله تعالى إليه في قوله سبحانه وتعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) ، قيل: إن المجادلة بالتي هي أحسن: ما كان نحو قوله عز وجل حكاية عن إبراهيم عليه السلام: ( يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) ، وقوله [ ص: 96 ] سبحانه وتعالى: ( هل يسمعونكم إذ تدعون ) ، فإن مثل هذه المجادلة يقيم الحجة، ولا يورث الوحشة، وهو معنى الدعاء إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.

                                                                            والله أعلم.

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية