الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            3705 - أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب ، نا أبو [ ص: 270 ] عيسى الترمذي، نا سفيان بن وكيع، حدثنا جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي، قال: حدثني رجل من بني تميم من ولد أبي هالة، زوج خديجة، يكنى أبا عبد الله، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي، قال: سألت خالي هند بن أبي هالة، وكان وصافا عن حلية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا، فقال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما مفخما، يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم القامة، رجل الشعر، إن انفرقت عقيقته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ من غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، سهل الخدين، ضليع الفم، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادن متماسك، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين [ ص: 271 ] المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرد، موصل ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف، أو قال: شائل الأطراف، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا، يخطو تكفيا، ويمشي هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب، فإذا التفت، التفت جمعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، يبدر من لقي بالسلام، قال الحسن: سألت خالي، قلت: صف لي منطق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلم، فصل لا فضول ولا تقصير، ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة، وإن دقت، لا يذم منها شيئا غير أنه لم يكن يذم [ ص: 272 ] ذواقا ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعدى الحق، لم يقم بغضبه شيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها، وضرب براحته اليمنى بطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، جل ضحكه التبسم".

                                                                            قال الحسن: فكتمته الحسين زمانا، ثم حدثته، فوجدته قد سبقني إليه، فسألني عما سألته عنه، ووجدته قد سأل أباه عن مدخله، وعن مخرجه وشكله، فلم يدع منه شيئا.

                                                                            قال الحسين: فسألت أبي عن دخول النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " كان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزأ جزأه بينه وبين الناس، فيرد ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدخر عنهم شيئا.


                                                                            وكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بأدبه وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم، والأمة من مسألتهم عنهم، وإخبارهم [ ص: 273 ] بالذي ينبغي لهم، ويقول: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ثبت الله قدميه يوم القيامة" لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون روادا، ولا يفترقون إلا عن ذواق، ويخرجون أدلة، يعني على الخير.

                                                                            قال: فسألته عن مخرجه، كيف كان يصنع فيه؟ قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحزن لسانه إلا فيما يعنيه، ويؤلفهم ولا يفرقهم، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويقومه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة".


                                                                            قال: فسألته عن مجلسه، فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 274 ] لا يقوم ولا يجلس إلا عن ذكر، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، يعطي كل جلسائه بنصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه ممن جالسه، ومن سأله حاجة لم يرده بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، يتعاطون فيه بالتقوى متواضعين، يوقرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب".

                                                                            قال الحسين: سألت أبي عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جلسائه، فقال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عياب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه، ولا يجيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، [ ص: 275 ] والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: لا يذم أحدا، ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، لا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوليتهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز، فيقطعه بنهي أو قيام ".

                                                                            وقال غير سفيان بن وكيع، عن جميع: "وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حبة الغمام".

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية