الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر اختلاف أهل العلم فيما يلزم العاقلة من الدية

                                                                                                                                                                              أجمع أهل العلم على أن دية الخطأ على العاقلة ، وأجمعوا كذلك على أن ما زاد على ثلث الدية على العاقلة .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في الثلث فما دونه فقالت طائفة : الثلث فما دونه في خاصة ماله ، وما زاد فهو على العاقلة . هذا قول الزهري .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : ما دون الثلث في مال الجاني ، فإذا بلغت الجناية الثلث فما فوقه فعلى العاقلة . روي هذا القول عن سعيد بن المسيب . [ ص: 348 ]

                                                                                                                                                                              وقال عطاء : إذا بلغ الثلث فهو على العاقلة . وقال عبيد الله بن عمر : نحن مجتمعون - أو كدنا أن نجتمع - أن ما دون الثلث في ماله خاصة . وكان مالك يقول : إذا بلغت الجناية الثلث فهي على العاقلة ، وما دون الثلث على الجاني في ماله . وهذا قول عبد العزيز بن أبي سلمة ، وعبد الملك بن الماجشون . وقد حكى ابن أبي أويس عن مالك أنه قال في نفر أربعة قتلوا رجلا : على كل رجل منهم ربع الدية تحمل ذلك عنهم العاقلة ، وكذلك لو كانوا عشرة حملت عاقلة كل رجل منهم ما عليه من تلك الدية . وهذا مذهب عبد الملك .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وهذا اختلاف من قولهما ، لأنهما قد ألزما العاقلة عشر الدية إذا اجتمعوا على القتل ، وهما ينفيان أن يلحق العاقلة أقل من الثلث ، والعشر أقل من الثلث .

                                                                                                                                                                              وكان أحمد يقول : لا تعقل العاقلة ما دون الثلث . ثم قال أحمد في امرأة قتلت وجنينها قال : هذا يكون فيه الدية ، والغرة على العاقلة ، قال : وإن ضربتها فألقت جنينا ولم تمت الأم ، فالغرة في مال التي ضربت . وهذا اختلاف من قوله ، لأن الجناية على الجنين غير الجناية على الأم ، فإذا جعل الغرة على العاقلة في مسألة ، ومنع أن يكون أقل [ ص: 349 ] من الثلث على العاقلة في غير أمر الغرة فقد أجاب في معنى واحد بجوابين . وحكي عن يحيى الأنصاري وربيعة أنهما قالا : لا تحمل العاقلة ما دون ثلث الدية .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : تعقل العاقلة السن والموضحة فما فوق ذلك ، وما كان دون ذلك ففي مال الجاني .

                                                                                                                                                                              هذا مذهب سفيان الثوري والنعمان .

                                                                                                                                                                              وروي عن النخعي أنه قال : لا تعقل العاقلة ما دون الموضحة .

                                                                                                                                                                              وقال مرة : الغرة على العاقلة . وقال إسحاق بن راهويه : الغرة على العاقلة صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحكي هذا القول عن ابن شبرمة .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : عقل الخطأ على عاقلة الجاني ، قلت الجناية أم كثرت ، لأن من غرم الأكثر غرم الأقل ، كما عقل العمد في مال الجاني قل أو كثر . [ ص: 350 ]

                                                                                                                                                                              هذا قول الشافعي ، وحكي هذا القول عن عثمان البتي .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : قال الله : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) وثبت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يؤخذ امرؤ بجريرة ابنه ، ولا بجريرة أبيه" .

                                                                                                                                                                              9589 - حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، ولا يؤخذ امرؤ بجريرة أبيه ولا بجريرة (ابنه) " . [ ص: 351 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : فكان اللازم على ظاهر كتاب الله وأخبار رسول الله أن يلزم الجنايات الجناة ، فلما ثبت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قضى في الدية في الخطأ على العاقلة ، وأجمع أهل العلم على أن ما زاد على ثلث الدية على العاقلة ، وثبت أن نبي الله جعل الغرة على العاقلة دون الجاني والجانية ، وجب القول به ، ووجب أن يستثنى ما أوجبت السنة استثناءه .

                                                                                                                                                                              9590 - حدثنا بكار بن قتيبة ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبيد بن نضيلة ، عن المغيرة بن شعبة أن امرأتين رمت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط فقتلتها ، وألقت جنينا ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنين غرة عبد أو أمة ، وجعله على عاقلة المرأة .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : فوجب لما ثبت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم جعل الغرة على العاقلة أن يستثنى ذلك من جملة ما لزم أن يكون على الجناة مما جنوا ، ويجب أن يكون كل ما اختلف فيه من جناية بعد ذلك على الجاني في ماله .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد احتج بعض أصحابنا في هذا الباب بحديث ابن عباس : .

                                                                                                                                                                              9591 - حدثناه الصائغ محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، قال : حدثنا عباد ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن [ ص: 352 ] أبيه ، عن جده ، وعن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار : "أن يعقلوا معاقلهم وأن يفكوا عانيهم بالمعروف وإصلاحا بين المسلمين" .

                                                                                                                                                                              فاحتج بعض من يميل إلى قول الشافعي بهذا الحديث وقال : قوله "أن يعقلوا معاقلهم" يدخل فيه قليل العقل وكثيره .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وهذا يحتمل معنيين : يحتمل أن يكون أراد العقل كاملا ، ويحتمل بعض العقل ، وإذا احتمل الحديث معنيين لم يجز أن يحمل على أحد المعنيين دون الآخر ، وليس إسناده بالمضيء ، لأن حجاج بن أرطأة كثير التدليس ، وقد تكلم أهل الحديث من حديثه فيما لا يقول من حديثه فيه : حدثنا وأخبرنا . وفي قوله : كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار معناه : أمر بالكتاب يكتب بينهم ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يكتب ، وقد ذكرت هذا المعنى في كتاب المناسك عند ذكري اختلاف أهل العلم في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 353 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية