الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر المكره على الكفر أو الإسلام

                                                                                                                                                                              واختلفوا في المكره على الكفر أو الإسلام .

                                                                                                                                                                              فقالت طائفة : إذا أكره على الكفر لم تبن منه زوجته ، ولم يحكم عليه بحكم الكفر ، هذا قول مالك ، والشافعي ، والكوفي . قال مالك : إذا تنصر فإن علم أنه تنصر طائعا فرق بينه وبين امرأته ، وإن أكره لم يفرق بينه وبين امرأته ، فإن لم يعلم أنه تنصر مكرها أو طائعا فرق بينه وبين امرأته ، وماله في ذلك موقوف حتى يموت فيكون في بيت مال المسلمين ، أو يرجع إلى الإسلام .

                                                                                                                                                                              وقال الشافعي : ولو شهد عليه شاهدان أنهما سمعاه يرتد ، وقالا : [ ص: 488 ] ارتد مكرها ، أو ارتد [محدودا] ، أو ارتد محبوسا لم يغنم ماله ، وورثه ورثته من المسلمين ، ولو قالا : كان مخلى آمنا حين ارتد كانت تلك ردة ، وغنم ماله ، ولو ادعى ورثته أنه رجع إلى الإسلام لم يقبل منهم إلا ببينة ، فإن أقاموا بينة أنهم رأوه في مدة بعد الشهادة بالردة يصلي صلاة المسلمين قبلت ذلك منهم وورثتهم ماله ، ولو كان هذا في بلاد الإسلام والمرتد ليس في حال ضرورة ، لم أقبل هذا منهم حتى يشهد عليه شاهدان بالتوبة بعد الردة ، ولم أقبل من ورثته أنه ارتد مسجونا ، ولا [محدودا] إذا لم تقطع البينة أنه سجن و (حد) .

                                                                                                                                                                              وقال النعمان ويعقوب : لو أن رجلا أجبره أهل الشرك على أن يكفر فكفر لم يكن بذلك كافرا ، ولم تبن منه بذلك امرأته ، وصلي عليه إن مات ، ويرثه أبوه المسلم إن مات ، لأنه مجبر على ذلك .

                                                                                                                                                                              وقال ابن الحسن : إذا ظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر ، وهو فيما بينه وبين الله على الإسلام ، إن كان مخلصا للإسلام بقلبه ، وتبين منه [ ص: 489 ] امرأته ، ولا يصلى عليه إن مات ، ولا يرث أباه إن مات مسلما . ولو أن نصرانيا أجبره وال على الإسلام فأسلم لم يكن ذلك إسلاما في قول النعمان ، وفي قول محمد يكون إسلاما في الظاهر ، فإن رجع عنه استتيب ، فإن تاب وإلا قتل .

                                                                                                                                                                              وقال الأوزاعي وسئل عن الأسير يظهر الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فاضطروه إلى شرب الخمر ولحم الخنزير ودخول الكنائس معهم ، فإذا كان من الليل قام فصلى صلوات اليوم والليلة ، فهل يسعه ذلك ؟ قال الأوزاعي : لا يسعه ذلك فإنما بلغنا أن التقية في القول وليس بالفعل .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ومما يحتج به في إسقاط الكفر عن المكره على الكفر قول الله عز وجل ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) .

                                                                                                                                                                              9657 - حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ ، حدثني سلمة ، حدثنا حفص بن عبد الرحمن ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن مسلم الأعور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه : "تفرقوا عني فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ، ومن لم تكن به قوة فليذهب أول الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقررت في الأرض فالحقوا بي" ، قال : فأصبح بلال المؤذن ، وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت ، فأصبحوا بمكة . قال : [ ص: 490 ] فأخذهم المشركون وأبو جهل ، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ، فجعلوا يضعون درعا من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه ، فإذا ألبسوها إياه قال : أحد أحد . وأما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك . وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية . وأما الجارية [فوتد] لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قبلها حتى قتلها ، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبروه بالذي كان من أمرهم ، واشتد على عمار الذي تكلم به . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت ، أكان منشرحا بالذي قلت أم لا ؟ " قال : فأنزل الله عز وجل ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) .

                                                                                                                                                                              9658 - حدثنا علان ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) فأخبر الله عز وجل أنه من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم ، فأما من أكره وتكلم به بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه فلا حرج عليه ، لأن الله عز وجل إنما يؤاخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم . [ ص: 491 ]

                                                                                                                                                                              وقال الله عز وجل : ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) فأعذر الله عز وجل المكره ، وطرح عنه الحرج ، فغير جائز أن يلزم من تكلم بالكفر ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، الكفر ، بل هو على إيمانه ، وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرين يدلان على سقوط حكم الكفر عن المكره عليه .

                                                                                                                                                                              9659 - حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه" .

                                                                                                                                                                              9660 - حدثنا عبد الله بن أحمد قال : حدثنا خلاد بن يحيى ، قال : حدثنا أبو عقيل ، عن عبد الله بن عمر [بن] حفص ، عن نافع ، عن [ ص: 492 ] ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله عز وجل تجاوز لي في أمتي ثلاث خصال : عن ما أخطأت ، وعن ما نسيت ، وعن ما استكرهت عليه" . فقد روينا عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يرون طلاق المكره شيئا ، منهم : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، وبه قال طاوس ، وعطاء بن أبي رباح ، وجابر بن زيد ، والحسن البصري ، وشريح ، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، وأيوب [ ص: 493 ] السختياني ، ومالك بن أنس والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبو ثور .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية