فأما القراءة الأولى - وهي قراءة ابن كثير وحفص- فأوضح القراءات معنى ولفظا وخطا; وذلك أنهما جعلا "إن" المخففة من الثقيلة فأهملت، ولما أهملت -كما هو الأفصح من وجهيها- خيف التباسها بالنافية فجيء باللام فارقة في الخبر. فـ "هذان" مبتدأ، و "لساحران" خبره، ووافقت خط المصحف; فإن الرسم "هذن" بدون ألف ولا ياء وسيأتي بيان ذلك.
وأما تشديد نون "هذان" فعلى ما تقدم في سورة النساء، وقد أتقنت ذلك هناك.
[ ص: 64 ] وأما الكوفيون فيزعمون أن "إن" نافية بمعنى ما، واللام بمعنى إلا، وهو خلاف مشهور وقد وافق تخريجهم هنا قراءة بعضهم "ما هذان إلا ساحران".
وأما قراءة فواضحة من حيث الإعراب والمعنى. أما الإعراب فـ "هذين" اسم "إن" وعلامة نصبه الياء. و "لساحران" خبرها، ودخلت اللام توكيدا. وأما من حيث المعنى: فإنهم أثبتوا لهما السحر بطريق تأكيدي من طرفيه، ولكنهم استشكلوها من حيث خط المصحف; وذلك أن رسمه "هذن" بدون ألف ولا ياء، فإثباته بالياء زيادة على خط المصحف. قال أبي عمرو أبو إسحاق: "لا أجيز قراءة لأنها خلاف المصحف". وقال أبي عمرو "رأيتهما في الإمام مصحف أبو عبيد: "هذن" ليس فيها ألف، وهكذا رأيت رفع الاثنين في ذلك المصحف بإسقاط الألف، وإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء، ولا يسقطونها". عثمان
قلت: وهذا لا ينبغي أن يرد به على وكم جاء في الرسم أشياء خارجة عن القياس، وقد نصوا هم أنه لا يجوز القراءة بها فليكن هذا منها، أعني مما خرج عن القياس. فإن قلت: ما نقلته عن أبي عمرو، مشترك الإلزام بين أبي عبيد وغيره، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادة الياء يعترض عليهم بزيادة الألف: فإن الألف ثابتة في قراءتهم، ساقطة من خط [ ص: 65 ] المصحف. فالجواب ما تقدم من قول أبي عمرو أنهم رآهم يسقطون الألف من رفع الاثنين، فإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء. أبي عبيد
وذهب جماعة - منهم رضي الله عنها عائشة إلى أن هذا مما لحن فيه الكاتب وأقيم بالصواب. يعنون أنه كان من حقه أن يكتبه بالياء فلم يفعل، فلم يقرأه الناس إلا بالياء على الصواب. وأبو عمرو-
وأما قراءة الباقين ففيها أوجه، أحدها: أن "إن" بمعنى نعم، و "هذان" مبتدأ، و "لساحران" خبره، وكثر ورود "إن" بمعنى نعم وأنشدوا:
3297 - بكر العواذل في المشيـ ـب يلمنني وألومهنه ويقلن شيب قد علا
ك وقد كبرت فقلت إنه
أي: فقلت: نعم. والهاء للسكت. وقال رجل لعن الله ناقة حملتني إليك. فقال: "إن وصاحبها" أي: نعم. ولعن صاحبها. وهذا رأي لابن الزبير: المبرد وعلي بن سليمان في آخرين. وهو مردود من وجهين، أحدهما: عدم ثبوت "إن" بمعنى نعم، وما أوردوه مؤول: أما البيت فإن الهاء اسمها، والخبر محذوف لفهم المعنى تقديره: إنه كذلك. وأما قول فذلك من حذف المعطوف عليه وإبقاء المعطوف وحذف خبر "إن" [ ص: 66 ] للدلالة عليه، تقديره: إنها وصاحبها ملعونان، وفيه تكلف لا يخفى. والثاني: دخول اللام على خبر المبتدأ غير المؤكد بـ "إن" المكسورة، لأن مثله لا يقع إلا ضرورة كقوله: ابن الزبير
3298 - أم الحليس لعجوز شهربه ترضى من اللحم بعظم الرقبه
وقد يجاب عنه: بأن "لساحران" يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف دخلت عليه هذه اللام تقديره: لهما ساحران. وقد فعل ذلك كما ستأتي حكايته عنه. الزجاج
الثاني: أن اسمها ضمير القصة وهو "ها" التي قبل "ذان" وليست بـ "ها" التي للتنبيه الداخلة على أسماء الإشارة، والتقدير: إن القصة ذان لساحران. وقد ردوا هذا من وجهين، أحدهما: من جهة الخط، وهو أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن تكتب "إنها" فيصلوا الضمير بالحرف قبله كقوله تعالى: "فإنها لا تعمى الأبصار" فكتبهم إياها مفصولة من "إن" متصلة باسم الإشارة يمنع كونها ضميرا، وهو واضح. الثاني: أنه يؤدي إلى دخول لام الابتداء في الخبر غير المنسوخ. وقد يجاب عنه بما تقدم.
الثالث: أن اسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة من المبتدأ والخبر [ ص: 67 ] بعده في محل رفع خبرا لـ "إن" ، التقدير: إنه، أي: الأمر والشأن. وقد ضعف هذا بوجهين، أحدهما: حذف اسم "إن"، وهو غير جائز إلا في شعر، بشرط أن لا تباشر "إن" فعلا كقوله:
3299 - إن من يدخل الكنيسة يوما يلق فيها جآذرا وظباء
والثاني: دخول اللام في الخبر.
وقد أجاب بأنها داخلة على مبتدأ محذوف تقديره: لهما ساحران. وهذا قد استحسنه شيخه الزجاج أعني جوابه بذلك. المبرد،
الرابع: أن "هذان" اسمها، و "لساحران" خبرها. وقد رد هذا بأنه كان ينبغي أن يكون "هذين" بالياء كقراءة أبي عمرو.
وقد أجيب عن ذلك: بأنه على لغة بني الحارث وبني الهجيم وبني العنبر وزبيد وعذرة ومراد وخثعم. وحكى هذه اللغة الأئمة الكبار كأبي الخطاب وأبي زيد الأنصاري قال والكسائي. أبو زيد: "سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفا"، يجعلون المثنى كالمقصور فيثبتون ألفا في جميع أحواله، ويقدرون إعرابه بالحركات، وأنشدوا قوله:
3300 - فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى مساغا لناباه الشجاع لصمما
[ ص: 68 ] أي: لنابيه. وقوله:
3301 - إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها
أي: غايتيهما، إلى غير ذلك من الشواهد.
وقرأ "أن هذان ساحران" بفتح "أن" وإسقاط اللام: على أنها وما في حيزها بدل من "النجوى" كذا قاله ابن مسعود: وتبعه الشيخ ولم ينكره. وفيه نظر: لأن الاعتراض بالجملة القولية بين البدل والمبدل منه لا يصح. وأيضا فإن الجملة القولية مفسرة للنجوى في قراءة العامة، وكذا قاله الزمخشري، أولا فكيف يصح أن يجعل "أن هذان ساحران" بدلا من "النجوى"؟ . الزمخشري
قوله: "بطريقتكم" الباء في "بطريقتكم" معدية كالهمزة. والمعنى: بأهل طريقتكم. وقيل: الطريقة عبارة عن السادة فلا حذف.