الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
56 - باب السواد وحكم ما نفقه الإمام من الأرض للمسلمين

18362 - أخبرنا أبو سعيد، حدثنا أبو العباس، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، رحمه الله قال: " ولا أعرف ما أقول في أرض السواد إلا ظنا مقرونا إلى علم.

18363 - وذلك أني وجدت أصح حديث يرويه الكوفيون عندهم في السواد ليس فيه بيان.

18364 - ووجدت أحاديث من أحاديثهم يخالفه. منها أنهم يقولون: السواد صلح، ويقولون: السواد عنوة، ويقولون: بعض السواد صلح، وبعضه عنوة، ويقولون: إن جريرا البجلي، وهذا أثبت حديث عندهم فيه ".

18365 - أخبرنا أبو بكر، وأبو زكريا، وأبو سعيد، قالوا: حدثنا أبو العباس، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا الثقة، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله قال: كانت بجيلة ربع الناس فقسم لهم ربع السواد، فاستغلوه ثلاثا أو أربع سنين - أنا شككت - ثم [ ص: 329 ] قدمت على عمر بن الخطاب ومعي فلانة بنت فلان - امرأة منهم قد سماها لا يحضرني ذكر اسمها - فقال عمر بن الخطاب : "لولا أني قاسم مسئول لتركتكم على ما قسم لكم، ولكني أرى أن تردوا على الناس".

18366 - وأخبرنا أبو سعيد، حدثنا أبو العباس، أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي: وكان في حديثه يعني في حديث جرير : وعاضني من حقي فيه نيفا وثمانين دينارا وكان في حديثه: فقالت فلانة: شهد أبي القادسية وثبت سهمه، ولا أسلمه حتى يعطيني كذا ويعطيني كذا، فأعطاها إياه.

18367 - قال الشافعي: وفي هذا الحديث دلالة إذا أعطى جريرا البجلي عوضا من سهمه، والمرأة عوضا من سهم أبيها، أنه استطاب أنفس الذين أوجفوا عليه فتركوا حقوقهم منه فجعله وقفا للمسلمين.

18368 - وهذا حلال للإمام لو افتتح أرضا عنوة فأحصى من افتتحها وطابوا أنفسا عن حقوقهم منها أن يجعلها الإمام وقفا وحقوقهم منها الأربعة الأخماس، ويوفي أهل الخمس حقوقهم إلا أن يدع البالغون منهم حقوقهم، فيكون ذلك لهم.

18369 - والحكم في الأرض كالحكم في المال.

18370 - وقد سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن ، وقسم أربعة أخماسها بين الموجفين.

18371 - ثم جاءته وفود هوازن مسلمين، فسألوه أن يمن عليهم بأن يرد عليهم ما أخذ منهم، فخيرهم بين الأموال والسبي، فقالوا: خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، فنختار أحسابنا [ ص: 330 ] .

18372 - فترك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حقه وحق أهل بيته.

18373 - وسمع بذلك المهاجرون، فتركوا لهم حقوقهم.

18374 - وسمع بذلك الأنصار، فتركوا لهم حقوقهم.

18375 - وبقي قوم من المهاجرين الآخرين والفتحيين فأمر ، فعرف على كل عشرة واحدا، ثم قال: "ائتوني بطيب أنفس من بقي، فمن كره فله علي كذا وكذا من الإبل"، إلى وقت ذكره.

18376 - فجاؤوه بطيب أنفسهم إلا الأقرع بن حابس وعيينة بن بدر، فإنهما أبيا ليعيرا هوازن ، فلم يكرههما رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، حتى كانا هما تركا بعد أن خدع عيينة عن حقه، وسلم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حق من طاب نفسه عن حقه.

18377 - وهذا أولى الأمور بعمر بن الخطاب رضي الله عنه عندنا في السواد وفتوحه إن كانت عنوة، فهو عندنا كما وصفت ظن عليه دلالة يقين، وإنما منعنا أن نجعله يقينا بالدلالة أن الحديث الذي فيه متناقض، فلا ينبغي أن يكون قسم إلا عن أمر عمر لكبر قدره، ولو تفوت فيه ما انتفى أن يغيب عنه قسمه ثلاث سنين [ ص: 331 ] .

18378 - ولو كان القسم ليس لمن قسم له ما كان لهم منه عوض، ولكان عليهم أن تؤخذ منهم الغلة والله أعلم كيف كان، ولم أجد فيه حديثا يثبت إنما أجدها متناقضة، والذي أولى بعمر عندي الذي وصفت.

18379 - قال أحمد: حديث جرير حديث صحيح، رواه عن إسماعيل بن أبي خالد: عبد الله بن المبارك، وهشيم، ويحيى بن أبي زائدة، وعبد السلام بن حرب وغيرهم، إلا أن بعضهم لم يذكر قصة المرأة وقالوا: ثلاث سنين، وبعضهم قال: سنتين أو ثلاثا، وقالوا: فرده على المسلمين، وأعطاه عمر ثمانين دينارا.

18380 - أنبأني أبو عبد الله، إجازة، أخبرنا أبو الوليد الفقيه، حدثنا إبراهيم بن أبي طالب، حدثنا زياد بن أيوب، حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس قال: كانت بجيلة ربع الناس يوم القادسية، فجعل لهم عمر رضي الله عنه ربع السواد، فأخذه سنتين أو ثلاثا، فوفد عمار إلى عمر وتبعه جرير، فقال عمر لجرير: "لولا أني قاسم مسئول لتركتكم على ما جعل لكم، وإن الناس قد كثروا فأرى أن تردوا عليهم" ففعل جرير فأجازه عمر بثمانين دينارا.

18381 - قال: وحدثنا إسماعيل، أيضا، عن قيس قال: كانت امرأة من بجيلة يقال لها: أم كرز، فقالت لعمر: يا أمير المؤمنين، إن أبي هلك وسهمه ثابت في السواد، وإني لم أسلم، قال لها: "يا أم كرز، إن زمانه قد صنعوا ما قد علمت" قالت: إن كانوا صنعوا ما صنعوا، فإني لست أسلم حتى تحملني على ناقة ذلول وعليها قطيفة حمراء وتملأ كفي ذهبا، ففعل ذلك، فكانت الدنانير نحوا من ثمانين دينارا.

18382 - وذكر الشافعي في القديم رواية شريح، عن هشيم، وفيه من الزيادة: فقال جرير: فأنا ضامن لك بجيلة فأجابته بجيلة إلا امرأة يقال لها: أم كرز، فإنها قالت: مات أبي وسهمه ثابت في السواد ولا أسلم، "فلم يزل بها عمر حتى رضيت، وملأ لها عمر كفها ذهبا" فقالت: رضيت [ ص: 332 ] .

18383 - قال الشافعي: فلم يكن عمر يستطيب أنفس بجيلة ويأخذ من غيرهم بغير طيب نفس لأن بجيلة ومن سواهم سواء.

18384 - قال أحمد: فالأشبه بما انتهى إلينا من أخبار عمر رضي الله عنه في الأراضي المغنومة أنه كان يرى قسمها بين الغانمين كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، ثم رأى من المصلحة أن يجعلها وقفا لتكون لمن بعدهم أيضا، وكان يحب أن يكون ذلك برضا الغانمين، فجعل يستطيب قلوبهم.

18385 - وروينا، عن نافع، مولى ابن عمر، أنه قال: أصاب الناس فتحا بالشام وفيهم بلال، وأظنه قال: ومعاذ بن جبل، فكتبوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن هذا الفيء الذي أصبنا ، لك خمسه ولنا ما بقي ليس لأحد منه شيء كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، فكتب عمر: إنه ليس كما قلتم، ولكني أقفها للمسلمين، فراجعوه الكتاب وراجعهم، يأبون ويأبى، فلما أبوا قام عمر فدعا عليهم فقال: "اللهم اكفني بلالا وأصحاب بلال" قال: فما حال الحول حتى ماتوا جميعا.

18386 - قال أحمد: وقد ذكر الشافعي في القديم حديث زيد بن الحباب، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن بلالا وأصحابه فتحوا فتوحا بالشام فقالوا لعمر: " اقسم بيننا ما غنمنا، فقال: "اللهم أرحني من بلال وأصحابه".

18387 - قال أحمد رحمه الله: قوله رضي الله عنه: إنه ليس على ما قلتم، لا يريد: ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر [ ص: 333 ] ، وإنما أراد عمر ، والله أعلم، ليست المصلحة فيما قلتم، وإنما المصلحة في أن أقفها للمسلمين وجعل يأبى قسمتها لما كان يرجو من تطيب قلوبهم بذلك، وجعلوا يأبون لما كان لهم من الحق، فلما أبوا لم يقطع عليهم الحكم بإخراجها من أيديهم ووقفها، ولكن دعا عليهم حيث خالفوه فيما رأى من المصلحة، وهم لو وافقوه وافقه أفناء الناس، والله أعلم.

18388 - وقد رأينا أيضا في فتح مصر أنه رأى ذلك ورأى الزبير بن العوام قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وقول من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم بعض خيبر وقسم بعضها، وفي ذلك دلالة على أن الإمام في ذلك بالخيار على ما ورد بالسير، فإن الذي لم يقسمه من خيبر هو ما كان صلحا، ولو كان الأمر على ما زعم لكان يحتج به عمر على أصحابه، ولما احتج بقسمه ما قسم منها الزبير بن العوام وبلال ومن طلب القسمة من الصحابة، والله أعلم.

18389 - وقد روينا عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما قرية افتتحها المسلمون عنوة فخمسها لله ورسوله، وبقيتها لمن قاتل عليها".

[ ص: 334 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية