الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
17 - المهادنة على النظر للمسلمين

18658 - قال الشافعي رحمه الله في الإسناد الذي ذكرنا: قامت الحرب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش، ثم أغارت سراياه على أهل نجد حتى توقى الناس لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفا للحرب دونه من سراياه، وإعداد من يعدله من عدوه بنجد، ومنعت منه قريش أهل تهامة، ومنع أهل نجد منه أهل نجد والمشرق.

18659 - ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة الحديبية في ألف وأربعمائة، فسمعت به قريش فجمعت له، وجدت على منعه، ولهم جموع أكبر ممن خرج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي هو، فتداعوا الصلح فهادنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مدة، ولم يهادنهم على الأبد؛ لأن قتالهم حتى يسلموا فرض عليهم إذا قوي عليهم، وكانت الهدنة بينه وبينهم عشر سنين، ونزل عليه في سفره في أمرهم: ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) .

18660 - قال ابن شهاب: فما كان في الإسلام فتح أعظم منه، وكانت الحرب قد أحجزت الناس، فلما أمنوا لم يكلم بالإسلام أحد يعقل إلا قبله، فلقد أسلم في سنتين من تلك الهدنة أكثر ممن أسلم قبل ذلك.

18661 - أخبرناه أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني الزهري ، عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال: فدعت قريش سهيل بن عمرو، فقالوا: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، لا يحدث العرب أنه دخل علينا عنوة، فخرج سهيل من عندهم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: "قد أراد القوم الصلح [ ص: 408 ] حين بعثوا هذا الرجل"، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جرى بينهما القول حتى وقع الصلح على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامهم ذلك حتى إذا كان العام المقبل قدمها خلوا بينه وبين مكة، فأقام بها ثلاثا، وأنه لا يدخلها إلا بسلاح الراكب والسيوف في القرب، وأنه من أتانا من أصحابك بغير إذن وليه لم نرده عليك، وأنه من أتاك منا بغير إذن وليه رددته علينا، وأن بيننا وبينك عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال.

18662 - وذكر الحديث بطوله، وفيه: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا، فلما أن كان بين مكة والمدينة نزلت عليه سورة الفتح من أولها إلى آخرها: ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) ، وكانت القصة في سورة الفتح وما ذكر من بيعة رسوله تحت الشجرة، فلما أمن الناس وتفاوضوا لم يكلم أحد بالإسلام إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام أكثر مما كان دخل فيه قبل ذلك، وكان صلح الحديبية فتحا عظيما.

18663 - قال أحمد: رجعنا إلى إسناد أبي سعيد قال الشافعي: ثم نقض بعض قريش، ولم ينكر عليه غيره، ولم يعتزل داره فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح مخفيا لوجهه، ليصيب منهم غرة.

18664 - قال الشافعي: وليس للإمام أن يهادن على النظر إلى غير مدة، ولكن يهادنهم على أن الخيار إليه متى شاء أن ينبذ إليه نبذا، افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 409 ] أموال خيبر عنوة، وكان رجالها وذراريها إلا أهل حصن واحد صلحا، فصالحوه على أن يقرهم ما أقرهم الله يعملون له وللمسلمين بالشطر من التمر.

18665 - فإن قيل: ففي هذا نظر للمسلمين؟ قيل: نعم، كانت خيبر وسط مشركين، وكانت يهود أهلها ومخالفين للمشركين حولها وأقوياء على منعها منهم، وكانت وبئة لا توطأ إلا من ضرورة فكفوهم المؤنة، ولم يكن بالمسلمين كثرة فينزلها منهم من يمنعها، فلما كثر المسلمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجلاء يهود الحجاز، فثبت ذلك عند عمر فأجلاهم.

18666 - فإن قيل: فلم لا يقول: أقركم ما أقركم الله؟ قيل: الفرق بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن أمر الله عز وجل كان يأتي رسوله بالوحي، ولا يأتي أحدا غيره بوحي، وبسط الكلام في خلال ما نقلت، وإنما نقلت ما عقله بالخبر، وهذا اللفظ: "نقركم ما أقركم الله" في رواية مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

18667 - وروي أيضا في غير هذه الرواية.

18668 - وقد روينا في حديث موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب، أجلى اليهود من أرض الحجاز، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين، فأراد إخراج اليهود منها فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بها على أن يكفوا عملها ولهم نصف التمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نقركم [ ص: 410 ] بها على ذلك ما شئنا"، فقروا بها حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيما وأريحا أخبرناه أبو طاهر الفقيه، أخبرنا أبو بكر القطان، حدثنا أبو الأزهر، حدثنا محمد بن شرحبيل، أخبرنا ابن جريج، حدثنا موسى بن عقبة، فذكره أخرجاه في الصحيح.

18669 - وروي ذلك أيضا عن غير موسى، عن نافع.

[ ص: 411 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية