الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
19 - جماع الهدنة على أن يرد الإمام من جاء بلده مسلما من المشركين

18675 - أخبرنا أبو سعيد، حدثنا أبو العباس، أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي رحمه الله: ذكر عدد من أهل العلم بالمغازي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هادن قريشا عام الحديبية على أن يأمن بعضهم بعضا، وأن من جاء قريشا من المسلمين مرتدا لم يردوه عليه، ومن جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة منهم رده عليهم، ولم يعطهم أن يرد عليهم من خرج منهم مسلما إلى غير المدينة في بلاد الإسلام أو الشرك وإن كان قادرا عليه".

18676 - قال: ولم يذكر أحد منهم أنه أعطاهم في مسلم غير أهل مكة شيئا من هذا الشرط، وذكروا أنه أنزل عليه في مهادنتهم: ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) ، فقال بعض المفسرين: قضينا لك قضاء مبينا.

18677 - قال الشافعي: فتم الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة على هذا، حتى جاءته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة مهاجرة، فنسخ الله [ ص: 415 ] الصلح في النساء وأنزل: ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ) إلى قوله: ( وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ) ، يعني المهور إذا كانوا أعطوهن إياها.

18678 - قال: وجاء أخواها يطلبانها فمنعهما منها، وأخبر أن الله تبارك وتعالى نقض الصلح في النساء، وحكم فيهن غير حكمه في الرجال.

18679 - قال: وإنما ذهبت إلى أن النساء كن في الصلح بأنه لو لم يدخل ردهن في الصلح، لم يعط أزواجهن فيهن عوضا، والله أعلم.

18680 - قال الشافعي: وبهذه الآية مع الآية في براءة قلنا: إذا صالح الإمام على ما لا يجوز، فالطاعة نقضه.

18681 - ثم ساق الكلام إلى أن قال: وبهذا قلنا: إذا ظفر المشركون برجل من المسلمين فأخذوا عليه عهودا وأيمانا أن يأتيهم أو يبعث إليهم بكذا، فحلال أن لا يعطيهم قليلا ولا كثيرا؛ لأنها أيمان مكرهة، وكذلك لو أعطى الإمام عليه أن يرده عليهم إن جاءه [ ص: 416 ] .

18682 - فإن قال قائل: ما دل على هذا؟ قيل له: لم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير من وليه حين جاءاه فذهبا به، فقتل أحدهما، وهرب منه الآخر، فلم ينكر ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قال قولا يشبه التحسين له.

18683 - ثم ساق الكلام إلى أن قال: حال الأسير وأموال المسلمين في أيدي المشركين خلاف ما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية من رد رجالهم الذين هم أبناؤهم وإخوتهم وعشائرهم الممنوعون منهم ومن غيرهم أن ينالوا بتلف.

18684 - فإن ذهب ذاهب إلى رد أبي جندل بن سهيل إلى أبيه، وعياش بن أبي ربيعة إلى أهله بما أعطاهم قيل له: آباؤهم وأهلوهم أشفق الناس عليهم، وأحرصه على سلامتهم، ولعلهم كانوا سيقونهم بأنفسهم مما يؤذيهم، فضلا عن أن يكونوا مهتمين على أن ينالوهم بتلف، أو أمر لا يحتملونه من عذاب، وإنما نقموا منهم [ ص: 417 ] خلافهم دينهم ودين آبائهم، وكانوا يشددون عليهم ليتركوا دين الإسلام وقد وضع الله عنهم المأثم في الإكراه فقال: ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) .

18685 - ومن أسر مسلما من غير قبيلته أو قرابته فقد يقتله بألوان القتل ويبلوه بالجوع والجهد، وليس حالهم واحدة ويقال له أيضا: ألا ترى أن الله نقض الصلح في النساء إذ كن إذا أريدت بهن الفتنة ضعفن عن عرضها عليهن، أو لم يفهمن فهم الرجال بأن التقية تسعهن في إظهار ما أراد المشركون من القول، وكان فيهن أن يصيبهن أزواجهن وهن حرام، فأسرى المسلمين في أكثر من هذه الحال، إلا أن الرجال ليس ممن ينكح، وربما كان في المشركين من يفعل فيما بلغنا، والله أعلم.

18686 - قال أحمد: وإنما نقلت كلام الشافعي رحمه الله في الفرق بين حال أبي جندل وغيره من أهل مكة حيث شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح ردهم ووفى بما شرط، وحال غيرهم مما لا يكون له حيث يرد إليه عشيرة ومنعة لغلط جماعة من السلف بحديث أبي جندل.

18687 - وكان الشافعي أيضا يذهب في الأسير إلى أنه ييسر له ما شرطوا عليه من المال، وإلا رجع إليهم.

18688 - هكذا رواه عنه أبو عبد الرحمن البغدادي، واستدل بحديث الليث عن عقيل، عن ابن شهاب في أمر أبي جندل، وهو فيما: أخبرناه أبو الحسن بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد، حدثنا عبيد بن شريك، حدثنا يحيى، حدثنا الليث، عن [ ص: 418 ] عقيل، عن ابن شهاب، أنه قال: أخبرني عروة بن الزبير، أنه سمع مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة، يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك، إلا رددته إلينا فخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وألغطوا به وأبى سهيل إلا ذلك، " فكاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة، وإن كان مسلما، وجاء المؤمنات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهم: ( إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ) أخرجه البخاري في الصحيح عن يحيى بن بكير.

18689 - وقد أخرجه أيضا من حديث معمر، عن الزهري، إلا أنه قال في هذه القصة: فقال سهيل: على أن لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك، إلا رددته إلينا.

18690 - فمن زعم أن النساء لم يدخلن في الصلح احتج بهذه الرواية.

18691 - وروينا في إسناد حديث محمد بن إسحاق بن يسار، عن الزهري، عن عروة، عن مروان، والمسور بن مخرمة في هذه القصة بنحو من معنى رواية عقيل، وقال: فإن الصحيفة لتكتب إذ طلع أبو جندل بن سهيل يرسف في الحديد، وقد كان أبوه حبسه فأفلت، فلما رآه سهيل قال: يا محمد لقد ولجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا قال: "صدقت"، وصاح أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جندل [ ص: 419 ] : "أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا" أخبرناه أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا العطاردي، حدثنا يونس، عن ابن إسحاق، فذكره.

18692 - ثم إن الشافعي في الجديد رجع عن هذا، وفرق بين الحالين بما نقلناه.

18693 - وأما ما ذكر من حديث عياش، أو أبي عياش فهو عياش بن أبي ربيعة فيما أعلم، وإنما الشك من جهة الربيع، والغلط من جهة المزني، حيث قال في بعض النسخ: ابن عياش، وذاك أن عياش بن أبي ربيعة هاجر إلى المدينة في أول ما هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه أبو جهل بن هشام، وهو أخوه لأمه، ورجل آخر معه، فقال له: إن أمك تناشدك رحمها وحقها أن ترجع إليها، فأقبل معهما، فربطاه حتى قدما به مكة .

18694 - هكذا ذكره مجاهد، ومحمد بن إسحاق بن يسار، صاحب المغازي.

18695 - ولا نرجع فيما نظن إلا بإذن النبي صلى الله عليه وسلم كان المعنى فيه ما في أبي جندل من رجوعه إلى عشيرته إلا أن ذلك كان قبل الصلح، ولعله رجع بنفسه فلم يمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم للمعنى الذي ذكرنا، والله أعلم.

18696 - وأما ما ذكر من حديث أبي بصير، فهو في الإسناد الذي ذكرناه عن محمد بن إسحاق، عن عروة، عن مروان، والمسور، بمعناه وأتم منه.

18697 - أخبرنا أبو سعيد، حدثنا أبو العباس، أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي: " قال الله تبارك وتعالى للمسلمين: ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) [ ص: 420 ] .

18698 - فأبانهن من المسلمين، وأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك بمضي العدة، فكان الحكم في إسلام الزوج الحكم في إسلام المرأة لا يختلفان.

18699 - وقال: ( واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ) ، يعني، والله أعلم، أزواج المشركات من المؤمنين إذا منعهن المشركون إتيان أزواجهن بالإسلام أتوا ما دفع إليهن الأزواج من المهور كما يؤدي المسلمون ما دفع أزواج المسلمات من المهور، وجعله الله حكما بينهم.

18700 - ثم حكم لهم في مثل ذلك المعنى حكما ثابتا فقال: ( وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم ) ، كأنه، والله أعلم، يريد فلم يعفوا عنهم إذ لم يعفوا عنكم مهور نسائكم، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا، كأنه يعني من مهورهن إذا فاتت امرأة مشركة أتتنا مسلمة قد أعطاها مائة في مهرها، وفاتت امرأة مشركة إلى الكفار قد أعطاها مائة حسبت مائة المسلم بمائة المشرك، فعل تلك العقوبة، ويكتب بذلك إلى أصحاب عهود المشركين حتى يعطي المشرك ما قصصناه به من مهر امرأته للمسلم الذي فاتت امرأته إليهم، ليس له غير ذلك.

18701 - ثم بسط الكلام في التفريع.

[ ص: 421 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية