الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3011 ص: وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - أيضا من غير هذا الوجه ما يدل على ما ذكرنا .

                                                حدثنا يونس ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن زياد بن نعيم ، أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي يقول : "أمرني رسول الله - عليه السلام - على قومي ، فقلت : يا رسول الله أعطني من صدقاتهم ففعل ، وكتب لي بذلك كتابا ، فأتاه رجل فقال : يا رسول الله أعطني من الصدقة . فقال رسول الله - عليه السلام - : إن الله -عز وجل- لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو من السماء ، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك منها " .

                                                قال أبو جعفر -رحمه الله- : فهذا الصدائي قد أمره رسول الله - عليه السلام - على قومه ومحال أن يكون أمره وبه زمانة ، ثم قد سأله من صدقة قومه وهي زكواتهم فأعطاه منها ، ولم

                                                [ ص: 23 ] يمنعه منه لصحة بدنه ، ثم سأله الرجل الآخر بعد ذلك ، فقال له رسول الله - عليه السلام - : إن كنت من الأجزاء الذين جزأ الله الصدقة فيهم أعطيتك منها ، فرد رسول الله - عليه السلام - بذلك حكم الصدقات إلى ما ردها الله -عز وجل- بقوله : إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية . فكل من وقع عليه اسم صنف من تلك الأصناف فهو من أهل الصدقة الذين جعلها الله -عز وجل- لهم في كتابه ، ورسوله في سنته زمنا كان أو صحيحا ، وكان أولى الأشياء بنا في الآثار التي رويناها عن رسول الله - عليه السلام - في الفصل الأول من قوله : "لا تحل الصدقة لذي مرة سوي " ما حملناها عليه ; لئلا يخرج معناها من الآية المحكمة التي ذكرنا ، ولا من هذه الأحاديث الأخر التي روينا ، ويكون معنى ذلك كله معنى واحدا يصدق بعضه بعضا .

                                                التالي السابق


                                                ش: ذكر حديث زياد بن الحارث الصدائي شاهدا لما ذكره من التأويل في الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى ، ولكونه موافقا في المعنى لحديث أبي سعيد الخدري .

                                                بيان ذلك : أن زياد بن الحارث كان ذا مرة سويا ولم تكن به زمانة ، وقد أمره رسول الله - عليه السلام - على قومه وجعل له من صدقاتهم شيئا ، فهذا أدل دليل على صحة التأويل المذكور .

                                                ثم لما سأل رسول الله - عليه السلام - ذلك الرجل الآخر قال له - عليه السلام - : "إن كنت من الأجزاء الذين جزأ الله الصدقة فيهم -يعني الأصناف الذين قسم الله الصدقة فيهم- أعطيتك منها " وذلك في قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية ، فبين الله تعالى أن كل من صدق عليه اسم صنف من تلك الأصناف يكون من أهل الصدقة الذين أثبت الله لهم في كتابه ورسوله في سنته سواء كان زمنا أو صحيحا ; لأن الله تعالى ذكر مطلقا ولم يقيد إلا كونه من أهل تلك الأصناف كما هو ظاهر لا يخفى فمتى ما حمل معنى الأحاديث المذكورة في استدلال أهل المقالة الأولى على ما

                                                [ ص: 24 ] حملوه عليه يخالف معناها معنى الآية الكريمة ومعنى الأحاديث الأخر ، فإذا حملتا على ما ذكرنا من التأويل تتفق معاني الكتاب والأحاديث كلها ، ويصدق بعضها بعضا ، أشار إلى ذلك كله بقوله : "وكان أولى الأشياء بنا . . . " إلى آخره .

                                                قوله : "قد أمره " . بتشديد الميم ، أي : جعله أميرا .

                                                قوله : "ومحال " . مرفوع ; لأنه خبر مبتدأ تقدم عليه ، وهو قوله : "أن يكون " ، "وأن " مصدرية تقديره : وكون تأمير النبي - عليه السلام - إياه والحال أن به زمانة محال .

                                                ثم إنه أخرج حديث زياد بن الحارث عن يونس بن عبد الأعلى المصري ، عن عبد الله بن وهب المصري ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم -بضم العين- الإفريقي قاضيها ضعفه الترمذي والنسائي ، وقال ابن خراش : متروك . وعن أحمد : ليس بشيء . وعنه : منكر الحديث . قال أبو داود : قلت لأحمد بن صالح : يحتج بحديث الإفريقي ؟ قال : نعم . قلت : صحيح الكتاب ؟ قال : نعم . وقال يعقوب بن شيبة : ثقة صدوق رجل صالح . روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه .

                                                وهو يروي عن زياد بن نعيم ، وهو زياد بن ربيعة بن نعيم بن ربيعة بن عمرو الحضرمي المصري ، قال العجلي : تابعي ثقة . روى له هؤلاء هذا الحديث الواحد .

                                                عن زياد بن الحارث الصدائي الصحابي ، ونسبته إلى صداء -بضم الصاد وتخفيف الدال- وهو حي من اليمن .

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا عبد الله بن مسلمة ، نا عبد الله -يعني ابن عمر بن غانم- عن عبد الرحمن بن زياد أنه سمع زياد بن نعيم الحضرمي ، أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي ، قال : "أتيت رسول الله - عليه السلام - فبايعته . . . " فذكر حديثا طويلا : "فأتاه رجل فقال : أعطني من الصدقة . فقال له رسول الله - عليه السلام - : إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك " .

                                                [ ص: 25 ] وأخرجه الطبراني في "الكبير " مطولا : ثنا بشر بن موسى ، ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، نا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن زياد بن نعيم ، عن زياد بن الحارث الصدائي ، قال : "أتيت النبي - عليه السلام - فبايعته ، فبلغني أنه يريد أن يرسل جيشا إلى قومي . فقلت : يا رسول الله رد الجيش وأنا لك بإسلامهم وطاعتهم . فقال : افعل ، فكتبت إليهم ، فأتى وفد منهم النبي - عليه السلام - بإسلامهم وطاعتهم ، فقال : يا أخا صداء إنك لمطاع في قومك . قلت : بك هداهم الله وأحسن إليهم ، قال : أفلا أؤمرك عليهم ؟ قلت : بك ، فأمرني عليهم فكتب لي بذلك كتابا ، وسألته من صدقاتهم ففعل ، وكان النبي - عليه السلام - في بعض أسفاره ، فنزلنا منزلا فأعرسنا من أول الليل فلزمته ، وجعل أصحابه ينقطعون حتى لم يبق معه رجل منهم غيري ، فلما تحين الصبح أمرني فأذنت ، ثم قال لي : يا أخا صداء معك ماء ؟ قلت : نعم ، قليل لا يكفيك ، قال : صبه في الإناء ثم ائتني به ، فأتيته به ، فأدخل يده ، فيه فرأيت بين كل أصبعين من أصابعه عينا تفور ، قال : يا أخا صداء ، لولا أني أستحيي من ربي لسقينا واستقينا ، ناد في الناس : من كان يريد الوضوء ، قال : فاغترف من اغترف ، وجاء بلال ليقيم ، فقال النبي - عليه السلام - : إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم ، فلما صلى الفجر أتاه أهل المنزل يشكون عاملهم ويقولون : يا رسول الله حدثنا بما كان بيننا وبين قومنا في الجاهلية ، فالتفت إلى أصحابه وأنا فيهم وقال : لا خير في الإمارة لرجل مؤمن ، فوقعت في نفسي ، وأتاه سائل فسأله فقال : من سأل الناس عن ظهر غنى فصداع في الرأس وداء في البطن ، قال : فأعطني من الصدقات ، فقال : إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى جعلها ثمانية أجزاء ، فإن كنت منهم أعطيتك حقك ، فلما أصبحت قلت : يا رسول الله أقل إمارتك فلا حاجة لي فيها . قال : ولم ؟ قلت : سمعتك تقول : لا خير في الإمارة لرجل مؤمن ، وقد آمنت ، وسمعتك تقول : من سأل الناس عن ظهر غنى فصداع في الرأس وداء في البطن ، وقد سألتك وأنا غني ، قال : هو ذاك فإن

                                                [ ص: 26 ] شئت فخذ وإن شئت فدع . قلت : بل أدع ، قال : فدلني على رجل أوليه ، فدللته على رجل من الوفد فولاه ، قالوا : يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء وسعنا ملؤها فاجتمعنا عليه ، وإذا كان الصيف قل وتفرقنا على مياه حولنا ، وإنا لا نستطيع اليوم أن نتفرق ، كل من حولنا عدو ، فادع الله يسعنا ماؤها ، فدعا بسبع حصيات ففركهن في كفيه ثم قال : إذا أتيتموها فألقوا واحدة واحدة واذكروا اسم الله ، فما استطاعوا أن ينظروا إلى قعرها بعد . انتهى .


                                                وقال الخطابي : في قوله : "فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك " . دليل على أنه لا يجوز حكم جمع الصدقة كلها في صنف واحد ، وأن الواجب تفرقتها على أهل السهمان بحصصهم ، ولو كان في الآية بيان الجمل دون بيان الحصص لم يكن للتجزئة معنى ، ويدل على صحة ذلك قوله : "أعطيتك حقك " فبين أن لأهل كل جزء على حدة حقا . وإلى هذا ذهب عكرمة ، وهو قول الشافعي .

                                                وقال إبراهيم النخعي : إذا كان المال كثيرا يحتمل الأجزاء قسمه على الأصناف ، وإذا كان قليلا جاز أن يضع في صنف واحد .

                                                وقال أحمد بن حنبل : تفريقه أولى ، ويجزئه أن يجعله في صنف واحد .

                                                وقال أبو ثور : إن قسمه الإمام قسمه على الأصناف الثمانية . وإن تولى قسمه رب المال فوضعه في صنف واحد رجوت أن يسعه .

                                                وقال مالك بن أنس : يجتهد ويتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الفاقة والخلة ، فإن رأى الخلة في الفقراء في عام أكثر قدمهم ، وإن رآها في أبناء السبيل في عام آخر أكثر حولها إليهم .

                                                وقال أصحاب الرأي : هو مخير يضعه في أي الأصناف شاء .

                                                قلت : كذلك قال الثوري ، وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ، ويروى ذلك عن ابن عباس .

                                                [ ص: 27 ] روى الطبري في تفسير قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء الآية : أنا عمران بن عيينة عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية ، قال : "في أي صنف وضعته أجزأك " .

                                                وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه " عن جرير ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عمر بن الخطاب أنه قال : " إنما الصدقات للفقراء الآية . قال : أيما صنف أعطيته من هذا أجزأك" .

                                                وكذلك أخرج عن حذيفة وسعيد بن جبير وعطاء وإبراهيم النخعي وأبي العالية وميمون بن مهران بأسانيد صحيحة .

                                                ولا نسلم صحة ما ادعاه الخطابي ; لأن قوله - عليه السلام - : "فإن كنت من تلك الأجزاء . . . " الحديث . يبين أنه إن كان موصوفا بما وصف به أحد الأصناف الثمانية فإنه يستحق من الصدقات شيئا ; لأن الآية لبيان الأصناف التي يتعين الدفع إليهم دون غيرهم ، وليس فيها ما يقتضي حصرها عليهم جملة واحدة فافهم .

                                                وقال الخطابي أيضا : إن في قوله : "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها " دليلا على أن بيان الشريعة قد يقع من وجهين :

                                                أحدهما : ما تولى الله بيانه في كتابه العزيز وأحكم فرضه فيه فليس به حاجة إلى زيادة من بيان النبي - عليه السلام - وبيان شهادة الأصول .

                                                [ ص: 28 ] والوجه الآخر : ما ورد ذكره في الكتاب مجملا ووكل بيانه إلى النبي - عليه السلام - فهو يفسره قولا وفعلا أو يتركه على إجماله ليبينه فقهاء الأمة ويستدركوه استنباطا واعتبارا بدلائل الأصول ، وكل ذلك بيان مصدره عن الله تعالى وعن رسوله - عليه السلام - .




                                                الخدمات العلمية