الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3045 ص: وأما ما احتجوا به مما رويناه عن عمر - رضي الله عنه - فلا حجة لهم فيه أيضا عندنا ; لأن عمر - رضي الله عنه - لم يأخذ ذلك منهم على أنه واجب عليهم ، وقد بين السبب -الذي من أجله أخذ ذلك منهم عمر بن الخطاب - حارثة بن مضرب .

                                                حدثنا فهد ، قال : ثنا محمد بن القاسم -المعروف بسحيم - الحراني ، قال : ثنا زهير بن معاوية ، قال : ثنا أبو إسحاق ، عن حارثة بن مضرب ، قال : "حججت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فأتاه أشراف من أشراف أهل الشام فقالوا : يا أمير المؤمنين ، إنا قد أصبنا دواب وأموالا ، فخذ من أموالنا صدقة تطهرنا بها ، وتكون لنا زكاة . فقال : هذا شيء لم يفعله اللذان كانا قبلي ، ولكن انتظروا حتى أسال المسلمين ، فسأل أصحاب رسول الله - عليه السلام - فيهم علي بن أبي طالب ، فقالوا :

                                                [ ص: 89 ] حسن، وعلي - رضي الله عنه - ساكت لم يتكلم معهم . فقال : ما لك يا أبا الحسن لا تتكلم ؟ قال : قد أشاروا عليك ولا بأس بما قالوا إن لم يكن أمرا واجبا وجزية راتبة يؤخذون بها . قال : فأخذ من كل عبد عشرة ، ومن كل فرس عشرة ، ومن كل هجين ثمانية ، ومن كل برذون أو بغل خمسة دراهم في السنة ، ورزقهم كل شهر الفرس عشرة دراهم ، والهجين ثمانية ، والبغل خمسة خمسة ، والمملوك جريبين كل شهر " .

                                                فدل هذا الحديث على أن ما أخذ منهم عمر من أجله ما كان أخذ منهم في ذلك أنه لم يكن زكاة ولكنها صدقة غير زكاة . وقد قال لهم عمر - رضي الله عنه - : "إن هذا لم يفعله اللذان كانا قبلي- يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر - رضي الله عنه - " . فدل ذلك على أن رسول الله - عليه السلام - وأبا بكر - رضي الله عنه - لم يأخذا مما كان يحضرهما من الخيل صدقة ، ولم ينكر على عمر - رضي الله عنه - ما قال من ذلك أحد من أصحاب رسول الله - عليه السلام - ، ودل قول علي لعمر - رضي الله عنهما - : "قد أشاروا عليك إن لم يكن جزية راتبة وخراجا واجبا " ، وقبول عمر - رضي الله عنه - ذلك منه أن عمر إنما كان أخذ منهم ما أخذ بسؤالهم إياه أن يأخذه منهم فيصرفه في الصدقات ، وأن لهم منع ذلك منه متى أحبوا ، ثم سلك عمر - رضي الله عنه - بالعبيد أيضا في ذلك مسلك الخيل فلم يكن ذلك بدليل على أن العبيد الذين لغير التجارة تجب فيهم صدقة ، وإنما كان ذلك على التبرع من مواليهم بإعطاء ذلك ، فكذلك ما أخذه منهم بسبب الخيل ليس ذلك بدليل على أن الخيل فيها صدقة ، ولكن ذلك على التبرع من أربابها بإعطاء ذلك .

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا جواب عما احتج به أهل المقالة الأولى مما روي ، عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يأخذ من الفرس صدقة .

                                                بيان ذلك : أن يقال : إن ما روي عن عمر من ذلك فليس لهم فيه حجة ; لأن عمر - رضي الله عنه - لم يكن يأخذ ذلك منهم على أنه كان واجبا عليهم وإنما كان أخذ منهم ما أخذ بسؤالهم إياه على سبيل التبرع والتقرب إلى الله تعالى ، ليأخذ ذلك ويصرفه في الصدقات ، والدليل على ذلك : ما رواه حارثة بن مضرب ، ألا ترى أنهم لما قالوا :

                                                [ ص: 90 ] "خذ من أموالنا صدقة تطهرنا بها وتكون لنا زكاة " . أجاب عمر - رضي الله عنه - فقال : "هذا شيء لم يفعله اللذان كانا قبلي " وأراد بهما : النبي - عليه السلام - وأبا بكر - رضي الله عنه - ، فدل ذلك أن النبي - عليه السلام - لم يكن يأخذ من الخيل شيئا ولا أبو بكر - رضي الله عنه - من بعده في خلافته ، وأيضا فلم ينكر على عمر - رضي الله عنه - قوله ذلك أحد من الصحابة ، إذ لو كان الأمر بخلافه لأنكروا عليه ، فدل ذلك كله أن ما كان أخذه عمر - رضي الله عنه - من السائب بن يزيد ليس على جهة الوجوب ، بين ذلك حديث حارثة بن مضرب ، وأيضا قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لعمر بن الخطاب : "قد أشاروا عليك إن لم يكن جزية راتبة وخراجا واجبا " دل على ما قلنا ; لأن عمر قبل هذا القول منه ، فدل ذلك كله على أن عمر إنما أخذ منهم ما أخذ بسؤالهم إياه ليأخذه ويصرفه في الصدقات ، حتى إن لهم منع ذلك متى أحبوا ، وأيضا فإن عمر - رضي الله عنه - قد سلك في العبيد أيضا مسلك الخيل حيث أخذ من كل عبد عشرة ، والعبيد إذا لم يكونوا للتجارة لا يجب فيهم شيء ، فدل ذلك أن ما كان يأخذه كان على سبيل التبرع من أصحابها حيث أعطوا ذلك .

                                                ثم إنه أخرج الأثر المذكور عن فهد بن سليمان ، عن محمد بن القاسم المعروف بسحيم الحراني قال أبو حاتم : صدوق . عن زهير بن معاوية بن حديج الكوفي روى له الجماعة ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة ، عن حارثة بن مضرب العبدي الكوفي قال أحمد : حسن الحديث . وعن يحيى : ثقة . وروى له الأربعة .

                                                وأخرجه الدارقطني في "سننه " : ثنا محمد بن المعلى الشونيزي ، ثنا محمد بن عبد الله المخزومي ، ثنا يحيى بن آدم ، ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب : "أن قوما من أهل الشام أتوا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقالوا : إنا قد أصبنا كراعا ورقيقا ، وإنا نحب أن نزكيه . قال : ما فعله صاحباي قبلي ، ولا أفعله حتى

                                                [ ص: 91 ] أستشير ، فشاور أصحاب محمد - عليه السلام - فقالوا : حسن، وعلي - رضي الله عنه - ساكت ، فقال : ألا تتكلم يا أبا الحسن ؟ فقال : قد أشاور عليك وهو حسن إن لم يكن جزية راتبة يؤخذون بها بعدك . قال : فأخذ من الرقيق عشرة دراهم ورزقهم جريبين من بر كل شهر ، وأخذ من الفرس عشرة دراهم ورزقه عشرة أجربة من شعير كل شهر ، وأخذ من المقاريف ثمانية دراهم ورزقها ثمانية أجربة من شعير كل شهر ، وأخذ من البراذين خمسة دراهم ورزقها خمسة أجربة من شعير كل شهر .

                                                قال أبو إسحاق : فلقد رأيتها جزية تؤخذ من أعطياتنا زمان الحجاج وما نرزق عليها " .

                                                قال الشيخ : "المقرف " من الخيل دون الجواد . انتهى .

                                                قوله : "تطهرنا بها " أي : بالصدقة ، تلمحوا في هذا قوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها

                                                قوله : "فقالوا : حسن " أي : قال الصحابة : هذا شيء حسن ، يعني : أخذك منهم بسؤالهم إياه شيء حسن .

                                                قوله : "وعلي ساكت " جملة اسمية وقعت حالا .

                                                قوله : "ومن كل هجين " أي : ومن كل فرس هجين ، قال ابن الأثير : الهجين في الناس والخيل إنما يكون من قبل الأم ، فإذا كان الأب عتيقا والأم ليست كذلك كان الولد هجينا ، والإقراف من قبل الأب .

                                                قال الجوهري : المقرف الذي دانى الهجنة من الفرس وغيره الذي أمه عربية وأبوه ليس كذلك ; لأن الإقراف إنما هو من قبل الفحل ، والهجنة من قبل الأم .

                                                وقال ابن الفارسي : المقرف مداني الهجنة ، والعتيق من الفرس هو الأصيل .

                                                [ ص: 92 ] قال الجوهري : العتيق الكريم من كل شيء والخيار من كل شيء . وفرس عتيق أي رائع .

                                                وقال في باب العين : وفرس رائع أي : جواد .

                                                وفي "المطالع " : الهجين من الخيل هو الذي أبوه عربي وأمه غير عربية ، وقد يستعمل ذلك في غير الخيل .

                                                قوله : "جريبين " تثنية جريب -بفتح الجيم وكسر الراء- قال الجوهري : الجريب من الطعام والأرض مقدار معلوم ، والجمع : أجربة وجربان .

                                                قلت : المراد هنا جريب الطعام ، وجريب الأرض ما يكون طولها ستين ذراعا وعرضها مثل ذلك بذراع الملك كسرى ، يزيد على ذراع العامة بقبضة .




                                                الخدمات العلمية