الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3284 ص: وقد رويت عن رسول الله - عليه السلام - آثار أخر فيها دليل على أن صومه كان اختيارا لا فرضا .

                                                فمنها : ما حدثنا أبو بكرة وعلي بن شيبة ، قالا : ثنا روح ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : "لما قدم رسول الله - عليه السلام - المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم ، فقالوا : هذا اليوم الذي أظهر الله -عز وجل- فيه موسى - عليه السلام - على فرعون ، فقال : أنتم أولى بموسى منهم فصوموا " .

                                                ففي هذا الحديث أن رسول الله - عليه السلام - إنما صامه شكرا لله -عز وجل- في إظهاره موسى على فرعون ، فذلك على الاختيار لا على الفرض .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي : رويت أحاديث أخرى عن النبي - عليه السلام - تدل على أن صوم يوم عاشوراء كان اختيارا -يعني تطوعا وتبرعا- لا فرضا ، منها حديث ابن عباس .

                                                أخرجه بإسناد صحيح .

                                                وأبو بشر هو جعفر بن إياس اليشكري .

                                                [ ص: 403 ] وأخرجه البخاري : ثنا أبو معمر ، نا عبد الوارث ، نا أيوب ، نا عبد الله بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : "قدم النبي - عليه السلام - المدينة ، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذا يوم صالح ، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم ; فصامه موسى - عليه السلام - ، قال : فأنا أحق بموسى منكم ، فصامه وأمر بصيامه " .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا يحيى بن يحيى ، قال : أنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : "قدم رسول الله - عليه السلام - المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فسئلوا عن ذلك ، فقالوا : هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون ، ونحن نصومه تعظيما له ، فقال النبي - عليه السلام - : نحن أولى بموسى - عليه السلام - منكم ، فأمر بصومه " .

                                                وفي لفظ له : "أن النبي - عليه السلام - قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء ، فقال لهم رسول الله - عليه السلام - : ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ قالوا : هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه ، وغرق فرعون وقومه ، فصامه موسى - عليه السلام - شكرا ، فنحن نصومه . فقال رسول الله - عليه السلام - : فنحن أحق وأولى بموسى - عليه السلام - ، فصامه رسول الله - عليه السلام - وأمر بصيامه " .

                                                وأخرجه أبو داود : نا زياد بن أيوب ، قال : نا هشيم ، قال : أنا أبو البشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : "لما قدم النبي - عليه السلام - المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء ، فسئلوا عن ذلك ، فقالوا : هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون ، فنحن نصومه تعظيما له ، فقال رسول الله - عليه السلام - : نحن أولى بموسى منكم وأمر بصيامه " .

                                                [ ص: 404 ] وأخرجه ابن ماجه : نا سهل بن أبي سهل ، ثنا سفيان بن عيينة ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : "قدم النبي - عليه السلام - المدينة فوجد اليهود صياما ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذا يوم أنجى الله فيه موسى وأغرق فيه فرعون ، فصامه موسى - عليه السلام - شكرا ، فقال رسول الله - عليه السلام - : نحن أحق بموسى منكم ، فصامه وأمر بصيامه " .

                                                فإن قيل : خبر اليهود غير مقبول ، فكيف عمل - عليه السلام - بخبرهم ؟

                                                قلت : يحتمل أن يكون - عليه السلام - أوحي إليه بصدقهم فيما حكوا من قصة هذا اليوم ، أو يكون قد تواتر عنده - عليه السلام - خبره حتى وقع له العلم بذلك .

                                                وقال القاضي عياض : قد ثبت أن قريشا كانت تصومه ، وأن النبي - عليه السلام - كان يصومه ، فلما قدم المدينة صامه ، فلم يحدث له صوم اليهود حكما يحتاج إلى التكلم عليه ، وإنما هي صفة حال ، وجواب سؤال ، فدل أن قوله في الحديث "فصامه " ليس أنه ابتدأ صومه حينئذ ، ولو كان هذا لوجب أن يقال : صحح هذا من أسلم من علمائهم ، ووثقه من هداه الله من أحبارهم كابن سلام وبني سعية وغيرهم .

                                                وقد ذهب بعضهم إلى الجمع بين هذين الحديثين بأنه يحتمل أنه - عليه السلام - كان يصومه بمكة على مقتضى الحديث الأول ، ثم ترك صيامه حتى علم ما عند أهل الكتاب من فضل صومه فصامه .

                                                قوله : "ففي هذا الحديث " أي : حديث ابن عباس المذكور : أن رسول الله - عليه السلام - إنما صامه شكرا لله -عز وجل- في إظهاره موسى - عليه السلام - على فرعون ، فذلك على الاختيار لا على الفرض .

                                                وفيه بحث ; لأن لقائل أن يقول : لا نسلم أن ذلك على الاختيار دون الفرض ; لأن قوله -عليه السلام - : "فصوموا " أمر ، والأمر المجرد عن القرائن يدل على الوجوب ،

                                                [ ص: 405 ] وكونه صامه شكرا لا ينافي كونه للوجوب ، كما في سجدة "ص " ، فإن أصلها للشكر مع أنها واجبة .




                                                الخدمات العلمية