الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3085 3086 ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ربيع المؤذن ، قال : ثنا أسد ، قال : ثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثني عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن معاذ بن جبل قال : "بعثني رسول الله - عليه السلام - إلى اليمن ، فأمرني أن آخذ مما سقت السماء وما سقي بعلا العشر ، ومما سقي بالدوالي نصف العشر " .

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا عبد الحميد بن صالح ، قال : ثنا أبو بكر بن عياش . . . فذكر بإسناده مثله .

                                                التالي السابق


                                                ش: هذان طريقان صحيحان :

                                                الأول : عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي ، عن أسد بن موسى ، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الحناط -بالنون- المقرئ الكوفي روى له الجماعة ; مسلم في مقدمة كتابه ، واختلف في اسمه فقيل : محمد ، وقيل : عبد الله ، وقيل : سالم ، وقيل غير ذلك .

                                                عن عاصم بن أبي النجود -بفتح النون- الأسدي أبي بكر المقرئ روى له الجماعة الشيخان مقرونا بغيره ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة الكوفي روى له الجماعة ، عن معاذ بن جبل .

                                                وأخرجه ابن ماجه : ثنا الحسن بن علي ، قال : ثنا يحيى بن آدم ، ثنا أبو بكر ابن عياش ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن معاذ - رضي الله عنه - . . . إلى آخره نحوه سواء .

                                                [ ص: 155 ] وأخرجه النسائي أيضا ولفظه : "بعثني رسول الله - عليه السلام - إلى اليمن ، فأمرني أن آخذ مما سقت السماء العشر ، ومما سقي بالدوالي نصف العشر " .

                                                الثاني : عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن عبد الحميد بن صالح بن عجلان البرجمي ، قال أبو حاتم : صدوق . ووثقه ابن حبان .

                                                عن أبي بكر بن عياش . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه " : من حديث أبي بكر بن عياش ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن معاذ قال : "بعثني رسول الله - عليه السلام - إلى اليمن وأمرني أن آخذ مما سقت السماء وما سقي بعلا العشر ، ومما سقي بالدوالي نصف العشر " .

                                                قوله : "مما سقت السماء " أي : المطر .

                                                قوله : "وما سقي بعلا " البعل بفتح الباء الموحدة وسكون العين المهملة هو الذي يشرب بعروقه من الأرض من غير سقي سماء ولا غيرها .

                                                قال الأزهري : هو ما ينبت من النخل في أرض يقرب ماؤها ، فرسخت عروقها في الماء واستغنت عن ماء السماء والأنهار وغيرها .

                                                وقال ابن ماجه : قال يحيى بن آدم : البعل والعثري والعذي هو الذي يسقى بماء السماء ، والعثري ما يزرع بالسحاب وبالمطر خاصة ليس يصيبه إلا ماء المطر ، والبعل : ما كان من الكرم قد ذهبت عروقه في الأرض إلى الماء فلا يحتاج إلى السقي الخمس سنين والست .

                                                فإن قيل : "بعلا " منصوب بماذا ؟

                                                [ ص: 156 ] قلت : يجوز أن يكون حالا ، وغير المشتق يقع حالا بالتأويل كما في قولك : جاءني يزيد أسدا . أي شجاعا ، والأظهر أنه نصب على التمييز من قبيل وفجرنا الأرض عيونا وذلك لأن نسبة التفجير إلى الأرض لما كانت مبهمة بينها بقوله : عيونا وهو من قبيل ما يبين إجمالا في نسبة الفاعل إلى مفعوله .

                                                قوله : "بالدوالي " جمع دالية وهي المنجنون التي يديرها الثور .

                                                فإن قيل : ما وجه الاحتجاج بهذا الحديث ؟

                                                قلت : هو أنه مطلق وليس فيه فصل بين أن تكون خمسة أوسق أو أقل أو أكثر ، فوجب العمل بإطلاقه ، ووجبت الصدقة في كل ما تخرج الأرض سواء كان قليلا أو كثيرا ، ولكن إن كان الخارج مما سقي بالسيح والمطر ففيه العشر كاملا ، وإن كان بالدالية أو السانية ففيه نصف العشر .

                                                وأما جواب أبي حنيفة عن الأحاديث المتقدمة فهو أن المراد بها زكاة التجارة ; لأنهم كانوا يتبايعون بالأوساق ، وقيمة الوسق أربعون درهما .

                                                وقد أجيب عنها بأنها منسوخة .

                                                فإن قيل : ما وجه النسخ في ذلك ؟

                                                قلت : إذا ورد حديثان أحدهما عام والآخر خاص ، فإن علم تقديم العام على الخاص خص العام بالخاص ، كمن يقول لعبده : لا تعط لأحد شيئا . ثم قال له : أعط زيدا درهما . ثم قال له : لا تعط أحدا شيئا . فإن هذا ناسخ للأول .

                                                هذا مذهب عيسى بن أبان ، وهو المأخوذ به ، ويقال : هذا إذا علم التاريخ ، أما إذا لم يعلم فإن العام يجعل آخرا لما فيه من الاحتياط ، وهنا لم يعلم التاريخ فيجعل العام آخرا احتياطا . وقال بعض أصحابنا : وحجة أبي حنيفة فيما ذهب إليه عموم قوله

                                                [ ص: 157 ] تعالى : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وقوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده والأحاديث التي تعلقت بها أهل المقالة الأولى أخبار آحاد ، فلا تقبل في معارضة الكتاب .

                                                فإن قيل : ما تلوتم من الكتاب ورويتم من الأحاديث لأبي حنيفة - رضي الله عنه - تقتضي الوجوب من غير تعرض لمقدار الواجب ، وما روى هؤلاء يقتضي وجوب المقدار ، فكان بيانا لمقدار ما يجب فيه العشر ، والبيان بخبر الواحد جائز كبيان المجمل والمتشابه .

                                                قلت : لا يمكن حمله على البيان ; لأن ما احتج به أبو حنيفة عام ، فيتناول ما يدخل تحت الوسق وما لا يدخل ، وما روى هؤلاء يختص فيما يدخل تحت الوسق فلا يصلح بيانا للقدر الذي يجب فيه العشر ; لأن من شرط البيان أن يكون شاملا لجميع ما يقتضي البيان ، وهذا ليس كذلك ، فعلم أنه لم يرد مورد البيان .




                                                الخدمات العلمية