الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3005 ص: وذهبوا في تأويل هذه الآثار المتقدمة إلى أن قول النبي - عليه السلام - : "لا تحل الصدقة لذي مرة سوي" أنها لا تحل له كما تحل للفقير الذي لا يقدر على غيرها فيأخذها على الضرورة وعلى الحاجة من جميع الجهات منه إليها ، فليس مثله ذو المرة السوي القادر على اكتساب غيرها في حلها له ; لأن الزمن الفقير تحل له من قبل الزمانة ومن قبل عدم قدرته على غيرها ، وذو المرة السوي إنما تحل له من جهة الفقر خاصة وإن كانا جميعا قد يحل لهما أخذها ; فإن الأفضل لذي المرة السوي تركها والاكتساب بعمله ، وقد يغلظ الشيء من هذا فيقال : لا يحل أو لا يكون كذا على أنه غير متكامل للأسباب التي بها يحل ذلك المعنى ، وإن كان ذلك المعنى قد يحل بها دون تكامل تلك الأسباب .

                                                [ ص: 13 ] فمن ذلك ما روي عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال : "ليس المسكين بالطواف ولا بالذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يسأل ولا يفطن له فيتصدق عليه " .

                                                فلم يكن المسكين الذي يسأل خارجا من أسباب المسكنة وأحكامها حتى لا يحل له أخذ الصدقة ، وحتى لا يجزئ من أعطاه منها شيئا مما أعطاه من ذلك ، ولكن ذلك على أنه ليس بمسكين متكامل أسباب المسكنة ، فكذا قوله : "لا تحل الصدقة لذي مرة سوي" أي أنها لا تحل له من جميع الأسباب التي تحل بها الصدقة وإن كانت قد تحل له ببعض تلك الأسباب .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي : وذهب الآخرون وهم أهل المقالة الثانية في تأويل الأحاديث المذكورة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه ، وأشار بهذا إلى أن استدلالهم بالأحاديث المذكورة غير تام ; لأنهم صرفوها عن تأويلها الذي هو المراد ، وهو أن قوله - عليه السلام - : "لا تحصل الصدقة لذي مرة سوي" معناه : لا تحل له كما تحل للفقير الذي لا يقدر على غير الصدقة وإنما يأخذها لأجل ضرورته وحاجته إليها من سائر الجهات بخلاف ذي المرة السوي ; فإنه قادر على اكتساب غير الصدقة .

                                                وحاصله : أن ذا المرة السوي له جهتان : جهة الفقر ، وجهة القوة والقدرة على الاكتساب ، فقوله - عليه السلام - : "لا تحل لذي مرة سوي قوي" مصروف إلى هذه الجهة يعني بالنظر إلى قوته وقدرته على الاكتساب تحرم له الصدقة ، وأما بالنظر إلى الجهة الأخرى وهي جهة الفقر يحل له أخذها ; لأنه في هذه الجهة كسائر الفقراء ، وهو معنى قوله : لأن الزمن الفقير تحل له من قبل الزمانة ، ومن قبل عدم قدرته على غير الصدقة ، وذو المرة السوي إنما تحل له من جهة الفقر خاصة يعني لا من جهة القوة والقدرة على الاكتساب وإن كانا جميعا قد يحل لهما أخذها أي : أخذ الصدقة ، يعني بالنظر إلى جهة الفقر والاحتياج ، فيكون قوله - عليه السلام - : "لا تحل لذي مرة سوي" من باب التغليظ والتشديد ; لأنه لم يجمع أسباب المسكنة كلها التي بها تحل الصدقة ، فلم يكن كالفقير الذي جمع أسباب حل أخذ الصدقة .

                                                [ ص: 14 ] والأسباب هي : الفقر والعجز وعدم القدرة على الاكتساب ، ونظير ذلك قوله عليه السلام : "ليس المسكين بالطواف . . . " الحديث ، فإنه لا يدل على أن المسكين الذي يسأل يخرج عن حد المسكنة بحيث لا يجوز له أخذ الصدقة ، بل هو مسكين يجوز له أخذ الصدقة ، ولكن نفى عنه المسكنة في حالة السؤال ; للتغليظ والزجر حيث لم يجمع أسباب المسكنة كلها ، فالمعنى : المسكين الذي يسأل ليس بمسكين متكامل أسباب المسكنة ، فكذلك قوله - عليه السلام - : "ولا تحل لذي مرة سوي" معناه : لا تحل له الصدقة من جميع الأسباب التي تحل بها للفقير الذي لا يقدر على غيرها ، وإنما تحل له ببعض تلك الأسباب ، وهو كونه فقيرا مع قطع النظر عن قوته وقدرته على الاكتساب .

                                                وقوله - عليه السلام - : "ليس المسكين بالطواف . . . " إلى آخره قد أخرجه الطحاوي : في باب : "التسمية على الوضوء" عن عبد الله بن مسعود وأبي هريرة - رضي الله عنهما - ، وقد استوفينا الكلام فيه هناك .

                                                قوله : "وإن كانا جميعا" واصل بما قبله ، وجميعا يعني مجتمعين .

                                                قوله : "حتى لا تحل له" بنصب اللام ; لأنه جواب النفي ، وهو قوله : فلم يكن المسكين الذي يسأل .

                                                وقوله : "وحتى لا تجزئ" عطف على قوله : "حتى لا تحل له" داخل في حكمه ، فافهم .

                                                وقد أجاب بعض أصحابنا عنه بأن الصدقة إنما لا تحل لذي مرة سوي إذا سأل وإن لم يسأل يحل له أخذها ; لأنه فقير كسائر الفقراء ، وأن هذا القيد مراد في الحديث ، والله أعلم .




                                                الخدمات العلمية