الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3217 3218 3219 3220 3221 3222 3223 3224 3225 3226 3227 3228 3229 3230 3231 3232 3233 ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى فيما احتجوا به عليهم من قول النبي - عليه السلام - : "ليس من البر الصيام في السفر " : أنه قد يحتمل غير ما حملوه عليه ; يحتمل ليس من البر الذي هو أبر البر وأعلى مراتب البر الصوم في

                                                [ ص: 333 ] السفر ، وإن كان الصوم في السفر برا إلا أن غيره في البر أبر منه ، كما قال - عليه السلام - : "ليس المسكين بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، قالوا : فمن المسكين يا رسول الله ؟ قال : الذي يستحيي أن يسأل ، ولا يجد ما يغنيه ، ولا يفطن له فيعطى " .

                                                حدثنا بذلك ابن أبي داود ، قال : ثنا أبو عمر الحوضي ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله عن النبي - عليه السلام - بذلك .

                                                حدثنا علي بن شيبة ، قال : ثنا قبيصة ، قال : ثنا سفيان ، عن إبراهيم الهجري . . . فذكر بإسناده مثله .

                                                حدثنا يونس ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن أبي ذئب ، عن أبي الوليد ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - عليه السلام - نحوه .

                                                حدثنا أبو أمية ، قال : ثنا علي بن عياش ، قال : ثنا ابن ثوبان ، عن عبد الله بن الفضل ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - عليه السلام - مثله .

                                                فلم يكن معنى قوله : "ليس المسكين بالطواف " على معنى إخراجه إياه من أسباب المسكنة كلها ، ولكنه أراد بذلك : ليس هو المسكين المتكامل المسكنة الذي لا يسأل الناس ، ولا يعرف فيتصدق عليه ، فكذلك قوله : "ليس البر الصيام في السفر " ليس ذلك على إخراج الصوم في السفر من أن يكون برا ، ولكنه على معنى : ليس من البر الذي هو أبر البر الصوم في السفر ; لأنه قد يكون الإفطار هناك أبر فيه إذا كان على التقوي للقاء العدو وما أشبه ذلك ، فهذا معنى صحيح ، وهو أولى ما حمل عليه معنى هذه الآثار حتى لا تتضاد هي وغيرها مما قد روي في هذا الباب ; فإنه حدثنا يونس ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان ، فصام حتى بلغ الكديد ، ثم أفطر فأفطر الناس ، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - عليه السلام - " .

                                                [ ص: 334 ] حدثنا علي بن شيبة ، قال : ثنا روح ، قال : ثنا مالك وابن جريج ، قالا : ثنا ابن شهاب . . . فذكر بإسناده مثله .

                                                حدثنا علي ، قال : ثنا روح ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن رسول الله - عليه السلام - مثله ، غير أنه قال : "حتى أتى عسفان " .

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا شعبة . . . فذكر بإسناده مثله .

                                                حدثنا فهد ، قال : ثنا أبو غسان ، قال : ثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن رسول الله - عليه السلام - مثله .

                                                حدثنا ربيع الجيزي ، قال : ثنا أبو زرعة ، قال : ثنا حيوة بن شريح ، قال : ثنا أبو الأسود ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، حدثه عن ابن عباس : "أن رسول الله - عليه السلام - خرج عام الفتح في رمضان ، فصام حتى بلغ الكديد ، فبلغه أن الناس شق عليهم الصيام ، فدعا رسول الله - عليه السلام - بقدح من لبن فأمسكه في يده حتى رآه الناس -وهو على راحلته- حوله ، ثم شرب رسول الله - عليه السلام - فأفطر ، فناوله رجلا إلى جنبه فشرب " .

                                                فصام رسول الله - عليه السلام - في السفر وأفطر .

                                                حدثنا علي ، قال : ثنا روح ، قال : ثنا حماد ، عن أبي الزبير ، عن جابر : "أن رسول الله - عليه السلام - سافر في رمضان ، فاشتد الصوم على رجل من أصحابه ، فجعلت راحلته تهيم به تحت الشجر ، فأخبر النبي - عليه السلام - بأمره فدعا بإناء ، فلما رآه الناس على يده أفطروا " .

                                                حدثنا محمد بن خزيمة وفهد ، قالا : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : ثنا ابن الهاد ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر قال : "خرج رسول الله - عليه السلام - عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم ، فصام الناس معه ، فبلغه أن الناس قد شق عليهم الصيام ينظرون فيما بلغت ، فدعا بقدح من ماء بعد العصر ، فشرب والناس ينظرون ، فبلغه أن ناسا صاموا بعد ذلك ، فقال : أولئك العصاة " .

                                                [ ص: 335 ] حدثنا بحر بن نصر ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : ثنا معاوية بن صالح ، عن ربيعة بن يزيد ، عن قزعة قال : "سألت أبا سعيد عن صيام رمضان في السفر ؟ فقال : خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - في رمضان عام الفتح ، فكان رسول الله - عليه السلام - يصوم حتى بلغ منزلا من المنازل فقال : إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم ، فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر ، ثم سرنا فنزلنا منزلا فقال : إنكم تصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم ، فأفطروا ، فكانت عزيمة من رسول الله - عليه السلام - ، ثم لقد رأيتني أصوم مع رسول الله - عليه السلام - قبل ذلك وبعد ذلك " .

                                                حدثنا فهد ، قال : ثنا ابن أبي مريم ، قال : ثنا يحيى بن أيوب ، قال : ثنا حميد الطويل ، أن بكر بن عبد الله حدثه قال : سمعت أنسا يقول : "إن رسول الله - عليه السلام - كان في سفر ومعه أصحابه ، فشق عليهم الصوم ، فدعا رسول الله - عليه السلام - بإناء فشرب وهو على راحلته ، والناس ينظرون إليه " .

                                                حدثنا ابن مرزوق ، قال : ثنا القعنبي ، قال : ثنا مالك ، عن سمي ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن رجل من أصحاب رسول الله - عليه السلام - قال : "لقد رأيت رسول الله بالعرج في الحر وهو يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر ، ثم إن رسول الله - عليه السلام - لما بلغ الكديد أفطر " .

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سعيد بن عبد العزيز ، قال : ثنا عطية بن قيس ، عن قزعة بن يحيى ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : "خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - لليلتين مضتا من رمضان ، فخرجنا صواما حتى بلغ الكديد فأمرنا بالإفطار ، فأصبحنا ومنا الصائم ومنا المفطر ، فلما بلغنا مر الظهران أعلمنا بلقاء العدو ، وأمرنا بالإفطار " .

                                                قال أبو جعفر -رحمه الله- : ففي هذه الآثار إثبات جواز الصوم في السفر ، وأن رسول الله - عليه السلام - إنما كان تركه إياه إبقاء على أصحابه ، أفيجوز لأحد أن يقول في ذلك الصوم أنه لم يكن برا لا يجوز هذا ؟ ! ولكنه بر ، وقد يكون الإفطار أبر منه إذا كان يراد

                                                [ ص: 336 ] به القوة للقاء العدو الذي أمرهم رسول الله - عليه السلام - بالفطر من أجله ، ولهذا المعنى قال لهم النبي - عليه السلام - : "ليس من البر الصوم في السفر " على هذا المعنى الذي ذكرنا .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي : وكان من الحجة لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى : في الذي احتجوا به عليهم من قوله - عليه السلام - : "ليس البر الصيام في السفر " وأراد بها الجواب عن ذلك .

                                                بيانه أن يقال : إن استدلالهم بهذا الحديث لا يتم ; لأنه ليس المراد من نفي البر نفي نفس البر ، وإنما هو نفي أعلى مراتب البر ، والمعنى : ليس أبر البر وأعلى مراتب البر الصيام في السفر ; لأنه وإن كان الصوم في السفر برا فقد يكون الفطر أبر منه فيما إذا كان في حج أو جهاد ، ليقوى عليه ، فيكون هذا من نظير قوله - عليه السلام - : "ليس المسكين بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان . . . " الحديث ، ومعلوم أن من يطوف مسكين ، وأنه من أهل الصدقة إذا لم يكن له شيء ، وقال - عليه السلام - : "ردوا المسكين ولو بكراع محرق " .

                                                وقالت عائشة - رضي الله عنها - : "إن المسكين ليقف على بابي . . . " الحديث ، فعلم أن قوله - عليه السلام - : "ليس المسكين بالطواف " معناه : ليس السائل بأشد الناس مسكنة ; لأن المتعفف الذي لا يسأل ولا يفطن له فيعطى هو أشد الناس مسكنة ، فلم يخرج المسكين بالطواف من أسباب المسكنة كلها ، ولكنه خرج عن حد المسكين المتكامل المسكنة الذي لا يسأل الناس ولا يعرف فيتصدق عليه ، وكذلك قوله - عليه السلام - : "ليس من البر الصيام في السفر " ليس معناه إخراج الصوم في السفر من أن يكون برا ، ولكن معناه : ليس من البر الذي هو أبو البر وأكمله وأتمه الصوم في السفر ; لأنه قد يكون الإفطار أبر فيه من غيره إذا كان في حج أو جهاد ، أو لمن كان يريد أخذ الرخصة التي تصدق الله بها على عبيده ، وقد مر الكلام فيه مرة في

                                                [ ص: 337 ] باب : "التسمية على الوضوء " ، وقد تكلم ابن حزم في هذا الموضع بكلام سخيف من غير تروي ولا فهم صحيح فقال : وقال بعض أهل الجهل والجرأة على القول بالباطل في الدين معنى قوله : - عليه السلام - "ليس من البر الصيام في السفر " مثل قوله : - عليه السلام - "ليس المسكين بهذا الطواف لا هذا تحريف للكلم عن مواضعه ، وكذب على رسول الله - عليه السلام - ، وتقويل له ما لم يقل ، وفاعل هذا يتبوأ مقعده من النار بنص قوله - عليه السلام - . . . إلى غير ذلك من الهذيانات والخرفات .

                                                قلت : هذا الكلام السخيف كله لأجل تمشية مذهبه الباطل ، وليس ما ذكروه تحريف الكلم عن مواضعه ، وإنما هو تأويل صحيح لأجل التوفيق بينه وبين غيره من الأحاديث التي تعارضه ; وذلك لأنه رويت أحاديث صحيحة بصوم رسول الله - عليه السلام - في السفر ، فإذا لم يؤول الحديث المذكور بهذا التأويل يقع التضاد بين الأخبار ، ودفع التعارض والتضاد مهما أمكن واجب ; لتصحيح معاني الأخبار والعمل بكلها ، وابن حزم حفظ شيئا وقد غابت عنه أشياء ، حيث لم يجوز الصوم في السفر ، والحال أنه - عليه السلام - قد صام فيه ، وكذلك صام جماعة من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - .

                                                فإن قيل : يجوز أن يكون صومه - عليه السلام - في رمضان في سفره تطوعا .

                                                قلت : هذا وإن كان محتملا ولكنه لم يثبت أنه صام تطوعا ، على أن الأقرب أن صومه كان من رمضان ; لأنه لا يترك الفرض إلى أيام أخر مع كون الإدراك مظنونا ويصوم التطوع .

                                                ثم إنه أخرج حديث "ليس المسكين . . . " إلى آخره في هذا الكتاب في موضعين قبل هذا الموضع :

                                                أحدهما : في باب : "التسمية على الوضوء " .

                                                والثاني : في باب : "من صلى خلف الصف وحده " .

                                                [ ص: 338 ] أما في باب التسمية على الوضوء فقد أخرجه من خمس طرق :

                                                الأول : عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري وأبي داود ، عن خالد بن عبد الله الطحان الواسطي ، عن إبراهيم بن مسلم الهجري ، عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة الكوفي ، عن عبد الله بن مسعود .

                                                الثاني : عن علي بن شيبة ، عن قبيصة بن عقبة السوائي ، عن سفيان الثوري ، عن إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، عن النبي - عليه السلام - .

                                                الثالث : عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ، عن أبي الوليد عبد الله بن الحارث الأنصاري البصري نسيب محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام - .

                                                وأخرجه الجماعة غير ابن ماجه من حديث أبي هريرة .

                                                الرابع : عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي ، عن علي بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة والشين المعجمة- الحمصي ، عن عبد الرحمن بن ثوبان العنسي ، عن عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث القرشي المدني ، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - عليه السلام - .

                                                وهذا الطريق معلول بابن ثوبان ; لأن يحيى ضعفه ، وعنه : لا شيء . وعن النسائي : ليس بثقة . وعن دحيم : ثقة يرمى بالقدر .

                                                فهذه الأربعة أخرجها بعينها ها هنا فاعتبر ذلك .

                                                الخامس : عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام - .

                                                [ ص: 339 ] وهذا الطريق غير مذكور في بعض النسخ ها هنا ، وفي بعضها موجود وهو الأقرب والأظهر .

                                                وأما في باب : "من صلى خلف الصف وحده " [ . . . ] .

                                                قوله : "وهو أولى ما حمل عليه " أي المعنى الصحيح الذي ذكره هو أولى ما تحمل عليه هذه الآثار ، وأراد بها أحاديث : "ليس المسكين " حتى لا تتضاد هي -أي هذه الآثار- وغيرها من الآثار التي رويت في هذا الباب ، أي في باب الصوم والإفطار في السفر ; وذلك لأنه إذا تأول هذه الآثار بالتأويل الذي ذكره يعارضها ما رواه عبد الله بن عباس وغيره ، فيقع بين الأحاديث تعارض وتنافي ، فبالتأويل المذكور تتفق معاني الأحاديث الواردة في هذا الباب .

                                                وبين الأحاديث التي فيها الصوم في السفر بقوله : فإنه حدثنا يونس . . . إلى آخره ، أي : فإن الشأن قد حدثنا . . . إلى آخره .

                                                وأخرج ها هنا عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك ورجل من أصحاب النبي - عليه السلام - .

                                                أما حديث ابن عباس فأخرجه من ست طرق صحاح :

                                                الأول : عن يونس بن عبد الأعلى . . . إلى آخره .

                                                ورجاله كلهم رجال الصحيح .

                                                وأخرجه البخاري : ثنا عبد الله بن يوسف ، قال : ثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس : "أن رسول الله - عليه السلام - خرج إلى مكة في رمضان فصام ، حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس " . والكديد ما بين عسفان وقديد انتهى " .

                                                وليس في روايته : "وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - عليه السلام - " .

                                                [ ص: 340 ] وهو في رواية مسلم : ثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح ، قالا : أنا الليث .

                                                وثنا قتيبة بن سعيد ، قال : ثنا ليث ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس أنه أخبره : "أن رسول الله - عليه السلام - خرج عام الفتح في رمضان ، فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر . قال : وكان صحابة رسول الله - عليه السلام - يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره " .

                                                وحدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم ، عن سفيان ، عن الزهري ، بهذا الإسناد مثله .

                                                قال يحيى : قال سفيان : لا أدري من قول من هو . يعني كان يؤخذ بالآخر من قول رسول الله - عليه السلام - .

                                                وحدثني محمد بن رافع ، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال : أنا معمر ، عن الزهري ، بهذا الإسناد .

                                                قال الزهري : وكان النظر آخر الأمرين ، وإنما يؤخذ من أمر رسول الله - عليه السلام - بالآخر فالآخر . قال الزهري : فصبح رسول الله - عليه السلام - مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان .

                                                وحدثني حرملة بن يحيى قال : أنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثل حديث الليث .

                                                قال ابن شهاب : "فكانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - عليه السلام - ويرونه الناسخ المحكم " انتهى .

                                                وقال القاضي عياض في "شرح مسلم " : قال ابن شهاب : وكانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - عليه السلام - . وقد بين في حديث أبي رافع أنه من كلام ابن شهاب ، وفسر فيه ما أبهمه ابن عيينة من قوله : لا أدري من قول من هو ;

                                                [ ص: 341 ] ولذلك أدخل مسلم هذا الطريق المفسر بعد حديث ابن عيينة ; تفسيرا لمبهمه ، وهو دليل إحسانه في التأليف .

                                                قال الإمام أبو عبد الله : يحمل قول ابن شهاب على أن النسخ في غير هذا الموضع ، وإنما أراد أن الأواخر من أفعاله - عليه السلام - تنسخ الأوائل إذا كان مما لا يمكن فيه البناء ، إلا أن يقول قائل : إنه من ابن شهاب ميل إلى القول بأن الصوم لا ينعقد في السفر ، فيكون كمذهب بعض أهل الظاهر ، وهو غير معروف عنه .

                                                الثاني : عن علي بن شيبة ، عن روح بن عبادة ، عن مالك بن أنس وعبد الملك بن جريج ، كلاهما عن الزهري . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه الدارمي في "سننه " : أبنا خالد بن مخلد ، نا مالك ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : " خرج رسول الله - عليه السلام - عام الفتح فصام وصوم الناس ، حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس ، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من فعل رسول الله - عليه السلام - " .

                                                الثالث : عن علي بن شيبة أيضا . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : "سافر رسول الله - عليه السلام - في رمضان فصام حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بإناء فيه شراب فشربه نهارا ليراه الناس ، ثم أفطر حتى دخل مكة . قال ابن عباس : فصام رسول الله - عليه السلام - وأفطر ، فمن شاء صام ومن شاء أفطر " .

                                                وأخرجه البخاري نحوه .

                                                قلت : فهذا كما ترى عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس . وكذا

                                                [ ص: 342 ] وقع في رواية أبي داود والنسائي . ورواية الطحاوي عن مجاهد عن ابن عباس بدون ذكر طاوس بينهما .

                                                وكذا أخرجه البزار في "مسنده " ، ثم قال : وقد روي عن ابن عباس من غير هذا الوجه بغير هذا الإسناد وبغير هذا اللفظ .

                                                الرابع : عن أبي بكرة بكار ، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا مسدد ، قال : نا أبو عوانة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : "خرج النبي - عليه السلام - من المدينة إلى مكة حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بإناء فرفعه إلى يده ليريه الناس ، وذلك في رمضان . فكان ابن عباس يقول : قد صام النبي - عليه السلام - وأفطر ، فمن شاء صام ومن شاء أفطر " .

                                                الخامس : عن فهد ، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري ، عن إسرائيل بن يونس ، عن منصور بن المعتمر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه النسائي : أخبرنا محمد بن قدامة ، عن جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : "سافر رسول الله - عليه السلام - في رمضان حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بإناء فشرب نهارا يراه الناس ثم أفطر " .

                                                السادس : عن ربيع بن سليمان الجيزي شيخ أبي داود والنسائي ، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المصري المؤذن ، عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه الزاهد العابد ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني يتيم عروة ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه البزار في "مسنده " مختصرا ، ولفظه : عن عكرمة ، عن ابن عباس : "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصوم في السفر ويفطر " .

                                                وأما حديث جابر فأخرجه من طريقين صحيحين :

                                                [ ص: 343 ] الأول : عن علي بن شيبة ، عن روح بن عبادة ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي ، عن جابر بن عبد الله .

                                                وأخرجه الحكم في "مستدركه " : أخبرني عبد الله بن الحسن القاضي بمرو ، ونا الحارث بن أبي أسامة ، ثنا يزيد بن هارون ، أنا حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن جابر : "أن النبي - عليه السلام - سافر في رمضان ، فاشتد الصوم على رجل من أصحابه ، فجعلت راحلته تهيم به تحت الشجرة ، فأخبر النبي - عليه السلام - بأمره ، فأمره أن يفطر ، ثم دعا النبي - عليه السلام - بإناء فوضعه على يده ثم شرب والناس ينظرون " .

                                                هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .

                                                وأخرج أحمد في "مسنده " : ثنا روح ، ثنا زكرياء ، ثنا أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - يقول : "كنا مع النبي - عليه السلام - في غزوة غزاها وكان في رمضان ، فصام رجل من أصحاب النبي - عليه السلام - فضعف ضعفا شديدا وكاد العطش أن يقتله ، وجعلت ناقته تدخل تحت العضاه ، فأخبر به النبي - عليه السلام - فقال : ائتوني به ، فأتي به فقال : ألست في سبيل الله ومع رسول الله ؟ أفطر ، فأفطر " .

                                                الثاني : عن محمد بن خزيمة بن راشد وفهد بن سليمان ، كلاهما عن عبد الله بن صالح وراق الليث ، عن الليث بن سعد ، عن يزيد بن عبد الله بن شداد بن الهاد ، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب المدني الصادق ، عن أبيه محمد بن علي الباقر ، عن جابر بن عبد الله .

                                                وأخرجه مسلم : حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب -يعني : ابن عبد المجيد - قال : ثنا جعفر ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله : "أن رسول الله - عليه السلام - خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان ، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ، ثم

                                                [ ص: 344 ] دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ، ثم شرب ، فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام ، فقال : أولئك العصاة ، أولئك العصاة "
                                                .

                                                وأما حديث أبي سعيد الخدري ، فأخرجه من طريقين صحيحين :

                                                الأول : عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني وثقه يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب المصري ، عن معاوية بن صالح بن حدير الحمصي قاضي الأندلس روى له الجماعة ، البخاري في غير "الصحيح " .

                                                عن ربيعة بن يزيد الدمشقي أبي شعيب الإيادي القصير روى له الجماعة ، عن قزعة بن يحيى -ويقال : ابن الأسود - أبي غادية البصري روى له الجماعة ، عن أبي سعيد سعد بن مالك الخدري .

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا أحمد بن صالح ووهب بن بيان -المعنى- قالا : نا ابن وهب ، قال : حدثني معاوية ، عن ربيعة بن يزيد ، أنه حدثه عن قزعة قال : "أتيت أبا سعيد الخدري وهو يفتي الناس وهو مكثور عليه ، فانتظرت خلوته ، فلما خلى سألته عن صيام رمضان في السفر ، فقال : خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - في رمضان عام الفتح ، فكان رسول الله - عليه السلام - يصوم ونصوم ، حتى بلغ منزلا من المنازل فقال : إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم ، فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر قال : ثم سرنا فنزلنا منزلا فقال : إنكم تصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم ، فأفطروا ، فكانت عزيمة من رسول الله - عليه السلام - . قال أبو سعيد : ثم لقد رأيتني أصوم مع النبي - عليه السلام - قبل ذلك وبعد ذلك " .

                                                وأخرجه مسلم : عن محمد بن حاتم ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن صالح ، عن ربيعة بن يزيد ، عن قزعة ، عن أبي سعيد ، نحوه .

                                                الثاني : عن أبي بكرة بكار ، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري ، عن سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي أبي محمد الدمشقي ، فقيه الشام [ ص: 345 ] ومفتيهم بعد الأوزاعي ، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح " .

                                                عن عطية بن قيس الكلابي أبي يحيى الحمصي الدمشقي روى له الجماعة البخاري مستشهدا ، عن قزعة بن يحيى المذكور آنفا ، عن أبي سعيد الخدري .

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه " : من حديث سعيد بن عبد العزيز ، عن عطية بن قيس ، عن قزعة ، عن أبي سعيد الخدري قال : "أمرنا رسول الله - عليه السلام - بالرحيل عام الفتح في ليلتين خلتا من شهر رمضان ، فخرجنا صواما حتى بلغنا الكديد ، فأمرنا رسول الله - عليه السلام - بالفطر فأفطرنا أجمعين .

                                                وفي رواية أبي يوسف التنيسي عن سعيد : "حتى إذا بلغ الظهران آذنا بلقاء العدو ، وأمرنا بالفطر ، فأصبح الناس شرجين ، منهم الصائم والمفطر ، حتى إذا بلغنا المنزل الذي نلقى العدو فيه أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعين " .

                                                وأخرجه الترمذي من طريق ابن المبارك عن سعيد وصححه .

                                                وأما حديث أنس - رضي الله عنه - فأخرجه أيضا بإسناد صحيح : عن فهد بن سليمان ، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري ، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري روى له الجماعة ، عن حميد بن أبي حميد الطويل البصري روى له الجماعة ، عن بكر بن عبد الله المزني البصري روى له الجماعة ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - .

                                                وأما حديث رجل من أصحاب النبي - عليه السلام - فأخرجه بإسناد صحيح : عن إبراهيم ابن مرزوق ، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود ، عن مالك بن أنس ، عن سمي القرشي المخزومي أبي عبد الله المدني روى له الجماعة ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة القرشي المخزومي المدني أحد الفقهاء السبعة بالمدينة قيل : اسمه محمد ، وقيل : اسمه أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن روى له الجماعة ، عن رجل من أصحاب النبي - عليه السلام - .

                                                [ ص: 346 ] وأخرجه البيهقي في "سننه " : من حديث مالك ، عن سمي ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن بعض أصحاب رسول الله - عليه السلام - : "أن النبي - عليه السلام - أمر الناس في سفره عام الفتح بالفطر وقال : تقووا لعدوكم ، وصام النبي - عليه السلام - . قال أبو بكر : قال الذي حدثني : لقد رأيت النبي - عليه السلام - بالعرج يصب فوق رأسه الماء من العطش أو من الحر ، فقيل : يا رسول الله إن طائفة من الناس صاموا حين صمت ، فلما كان بالكديد دعا بقدح فشرب ، فأفطر الناس " .

                                                ثم نتكلم في معاني الأحاديث المذكورة وما يستنبط منها من الأحكام :

                                                الأول : فقوله : "عام الفتح " أي فتح مكة ، كان في سنة تسع من الهجرة .

                                                قوله : "حتى بلغ الكديد " بفتح الكاف وهي عين جارية ، بها نخيل كثيرة ، بينها وبين مكة اثنان وأربعون ميلا ، وفي رواية البخاري : "إن الكديد ما بين عسفان وقديد " ، وعسفان : قرية جامعة بها منبر على ستة وثلاثين ميلا من مكة ; سميت بها لتعسف السيول فيها .

                                                "وقديد " : بضم القاف وفتح الدال موضع قريب من عسفان فكأنها في الأصل تصغير قد ، قال القاضي : قال في رواية : "حتى بلغ الكديد " ، وفي رواية : "حتى بلغ عسفان " ، وفي الأخرى : "حتى بلغ كراع الغميم " وهذا كله في سفر واحد في غزاة الفتح ، وسميت هذه المواضع في هذه الأحاديث لتقاربها ، وإن كانت عسفان متباعدة شيئا عن هذه المواضع ، فكلها مضافة إليها ، ومن عملها ، فاشتمل عليها اسمها ، وقد يكون أنه كلم الناس بحال الناس ومشقة ذلك عليهم ، وكان فطرهم بالكديد ، ويعضده ما جاء في حديث "الموطأ " : "فقيل لرسول الله - عليه السلام - : إن ناسا صاموا حين صمت . فلما كان بالكديد دعا بقدح فأفطر الناس " .

                                                و"الغميم " : بفتح الغين المعجمة وادي أمام عسفان بثمانية أميال ، يضاف إليها هذا الكراع ، وهو جبل أسود متصل به .

                                                [ ص: 347 ] و"الكراع " : كل أنف سال من جبل أو حرة .

                                                قوله : "تهيم به تحت الشجر " أي : تتقلب به حتى تدخل تحت الشجر من عدم تماسكه ، ومنه الرمل الأهيم وهو الذي لا يثبت ولا يتماسك .

                                                وفي رواية أحمد : "وجعلت ناقته تدخل تحت العضاه " وهو كل شجر ذي شوك ، واحده عضة ، حذفت منه الهاء كشفة ، ردت في الجمع فقالوا : عضاه كما قالوا : شفاه ، ويقال : عضاهة أيضا وعضهة أيضا .

                                                قوله : "أولئك العصاة " جمع عاصي كالقضاة جمع قاضي .

                                                قوله : "فكانت عزيمة من رسول الله - عليه السلام - " أي : وقعت عزيمة منه ، أو وجدت ، فتكون "كانت " تامة ، فلهذا لا تحتاج إلى خبر .

                                                قوله : "ثم لقد رأيتني " بضم التاء أي : لقد رأيت نفسي .

                                                قوله : "بالعرج " بفتح العين المهملة وسكون الراء وبالجيم ، وهي قرية جامعة من عمل الفرع ، على أيام من المدينة ، وأيضا العرج : عقبة بين مكة والمدينة على جادة الحاج ، وهذه هي المرادة ها هنا ، والعرج أيضا : بلد بين المحالب والمهجم .

                                                قوله : "صواما " بضم الصاد وتشديد الواو : جمع صائم ، وانتصابه على الحال من الضمير الذي في "فخرجنا " .

                                                قوله : "مر الظهران " بضم الميم وتشديد الراء ، وهي التي يقال لها : بطن مر أيضا ، وهي موضع قريب من مكة على طريق الحاج .

                                                قوله : "شرجين " بفتح الشين المعجمة وسكون الراء وفتح الجيم ، معناه نصفين نصف صيام ونصف مفاطير .

                                                والثاني : وهو الأحكام على وجوه : الأول : في أحاديث ابن عباس بيان صريح أنه - عليه السلام - صام في السفر ، وفيها رد على

                                                [ ص: 348 ] من لم يجوز الصوم في السفر ، وفيها بيان إباحة الإفطار في السفر ، وفيها أن الاتباع في أفعال النبي - عليه السلام - وأقواله بالأحدث فالأحدث ، وبالآخر فالآخر .

                                                الثاني : من حديث جابر ، استدل به من يقول : إن الصوم لا ينعقد في السفر ، وكذلك استدل به ابن حزم حتى قال : إن كان صومه لرمضان فقد نسخه بقوله : "أولئك العصاة " وصار الفطر فرضا ، والصوم معصية ، ولا سبيل إلى خبر ناسخ لهذا ، وإن كان صومه تطوعا فهذا أحرى للمنع من صيام رمضان لرمضان في السفر .

                                                قلنا : هذا تخبيط ; فليس ها هنا نسخ ولا فرضية الفطر ولا صوم النبي - عليه السلام - كان تطوعا ، وإنما قال : "أولئك العصاة " ; لأن الصوم كان قد شق عليهم فأمرهم بالإفطار دفعا لتلك المشقة ، فصار الصوم في ذلك الوقت في تلك الحالة منهيا عنه ، فلما بلغه أن بعضهم قد صاموا قال : أولئك العصاة ; لارتكابهم المنهي ، ويؤيد هذا التأويل قوله : "إن الناس قد شق عليهم الصيام " .

                                                الثالث : في حديث أبي سعيد أمور منها : أن فيه ردا على من يقول : إنه إذا أنشأ السفر في رمضان لم يجز له أن يفطر ، واحتجوا بقوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه

                                                وقال البخاري : ومعنى الآية شهود الشهر كله ومن شهد بعضه ولم يشهد كله فإنه لم يشهد الشهر . ومنها قال القاضي : فيه بيان جواز الفطر لمن بيت الصوم في السفر . وهو قول مطرف من أصحابنا وأحد قولي الشافعي خلافا للجمهور في أن ذلك لا يباح له ، واستدل هؤلاء على جواز ذلك بفطر النبي - عليه السلام - .

                                                وأجاب الجمهور عن ذلك أنه يحتمل أن يكون - عليه السلام - قد بيت الفطر .

                                                وقال القاضي : وظاهره غير ذلك ، وأنه ابتدأ الفطر حينئذ ، وقد يحتمل أنه للضرورة اللاحقة به وبهم ، والمشقة التي نالتهم ، أو فعل هو وهم ذلك لضرورة

                                                [ ص: 349 ] التقوي على عدوهم كما جاء في الحديث أيضا منصوصا ، فلا يكون هذا بحكم الاختيار .

                                                وقال المهلب : يحتمل أن يكون فطرهم في يومهم بعد تبييتهم الصوم ، ويحتمل أن يكون فيما يأتي ويستقبلون بعد يومهم ويبيتون فطرهم .

                                                قال القاضي : ثم اختلف المانعون للفطر بعد عقد الصوم فيه : هل عليه كفارة أم لا ؟ وعن مالك وأصحابه في ذلك قولان ، وبسقوط الكفارة قال جمهور أصحابه وكافة أئمة الفتوى وعلماء الأمصار . وفرق ابن الماجشون في فطره فأوجب الكفارة إن كان بجماع ، وأسقطها بغيره ، وهو أحد قولي الشافعي على أصله في أنه لا يكفر إلا المجامع .

                                                وكذلك اختلفوا في يوم خروجه :

                                                فذهب مالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وجمهور العلماء أنه لا يفطر إذا خرج صائما ولا يوم خروجه وقد لزمه الصوم ، وقد ذهب بعض السلف وأحمد وإسحاق والمزني إلى جواز ذلك له .

                                                وقال الحسن : له الفطر في بيته إذا أراد السفر في يومه . واختلف المذهب في وجوب الكفارة عليه عندنا في هذين الوجهين إن هو أفطر قبل خروجه أو هو أفطر بعده .

                                                ومنها أن فيه جواز الصوم في السفر ردا على من منعه .

                                                الرابع : في حديث رجل من أصحاب النبي - عليه السلام - جواز صب الماء على رأسه في نهار الصوم ، وأن ذلك لا يضر صومه ، والله أعلم .




                                                الخدمات العلمية