الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3237 ص: وكان مما احتج به أيضا أهل المقالة الأولى في رفعهم الصوم في السفر ما قد ذكرنا في غير هذا الموضع من قول رسول الله - عليه السلام - : " إن الله قد وضع عن المسافر الصيام " .

                                                قالوا : فلما كان الصيام موضوعا عنه كان إذا صامه فقد صامه وهو غير مفروض عليه فلا يجزئه .

                                                فكان من الحجة للآخرين عليهم في ذلك : أنه قد يجوز أن يكون ذلك الصيام

                                                [ ص: 355 ] الذي قد وضعه عنه هو الصيام الذي لا يكون له منه بد في تلك الأيام كما لا بد للمقيم من ذلك .

                                                وفي هذا الحديث ما دل على هذا المعنى ، ألا تراه يقول : "وعن الحامل والمرضع " ، أفلا ترى أن الحامل والمرضع إذا صامتا رمضان أن ذلك يجزئهما ، وأنهما لا يكونان كمن صام قبل وجوب الصوم عليه ، بل جعلتا يجب الصوم عليهما بدخول الشهر ، فجعل لهما تأخيره للضرورة ؟ والمسافر في ذلك مثلهما . وهذا أولى ما حمل عليه هذا الأثر حتى لا يضاد غيره من الآثار التي قد ذكرناها في هذا الباب .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي : وكان من الذي احتج به أيضا أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من أن الصوم مرفوع عن المسافر حتى إنه إذا صام لا يجوز عند بعضهم ، كما قد مر بيانه .

                                                قوله : "ما قد ذكرناه " في محل الرفع ; لأنه اسم كان ، وأراد بـ "غير هذا الموضع " باب صلاة المسافر فإنه أخرج فيه من حديث عبد الله بن الشخير ، عن رجل من بلحريش ، أن النبي - عليه السلام - قال : " إن الله قد وضع عن المسافر الصيام " ورواه بوجوه مختلفة هناك ، واحتج به هؤلاء وقالوا : لما كان الصيام موضوعا عن المسافر كان إذا صامه فقد صامه والحال أنه غير مفروض عليه ; فلا يجزئه ، وقد استدل ابن حزم أيضا بهذا الحديث على أن الإفطار في السفر فرض في شهر رمضان ، فقال : أسقط الله تعالى بهذه الأخبار عن المسافر الصوم ونصف الصلاة ، فإذا صامه لم يجزئه عن رمضان .

                                                وأجاب عن ذلك بقوله : "فكان من الحجة للآخرين عليهم " ، أي : فكان من الجواب للآخرين وهم الذين ذهبوا إلى تخيير المسافر في الصوم والإفطار "عليهم " أي : على أهل المقالة الأولى "في ذلك " أي : فيما احتجوا به "أنه " أي : أن الشأن "قد يجوز أن يكون ذلك الصيام الذي قد وضعه عنه " أي : عن المسافر "هو الصيام الذي لا يكون له منه بد في تلك الأيام " وأراد بها : الأيام التي لم تكن رخصة الإفطار فيها مشروعة يعني : أن الصيام الذي وضعه الله عن المسافر في هذا الحديث هو الصيام الذي كان

                                                [ ص: 356 ] عليه فرضا في السفر كما كان فرضا على المقيم ، ثم لما رخص الله بالإفطار للمسافر وضع عنه الصيام إلى وقت آخر . وقد دل على هذا المعنى قوله في الحديث : "عن الحامل والمرضع " أي : وضع الصوم أيضا عن الحامل والمرضع إذا خافتا على ولدهما ، ومع هذا لو صامتا عن رمضان فإنه يجزئهما عنه ; لأن الصوم وجب عليهما بدخول الشهر ، غير أنه أبيح لهما الإفطار للضرورة ، فإذا أقدمتا عليه جاز عن فرضهما ، وكذلك المسافر وجب عليه الصوم بدخول الشهر ، غير أنه أبيح له الإفطار لمشقة السفر ، فإذا أقدم عليه جاز عن فرضه .

                                                فهذا تحقيق ما قاله الطحاوي ، وقد قال أبو بكر الرازي : إن قوله - عليه السلام - هذا يدل على أن الفرض لم يتعين على المسافر بحضور الشهر ، وأن له أن يفطر فيه ، ولا دلالة فيه على نفي الجواز إذا صامه ، كما لم ينف جواز صوم الحامل والمرضع ، وفيه من المخالفة لما قاله الطحاوي على ما لا يخفى ، والذي قاله الطحاوي هو التقريب ; فافهم .




                                                الخدمات العلمية