الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3091 ص: فإن قال قائل ممن يذهب إلى قول أهل المدينة : إن هذه الآثار التي رويتها في هذا الفصل غير مضادة للآثار التي رويتها في الفصل الأول إلا أن الأولى مفسرة وهذه مجملة ، فالمفسر أولى من المجمل .

                                                قيل له : هذا محال ; لأن رسول الله - عليه السلام - أخبر في هذه الآثار أن ذلك الواجب من العشر أو نصف العشر فيما يسقى بالأنهار أو بالعيون أو بالرشاء أو بالدالية ، فكان وجه الكلام على كل ما خرج مما سقي بذلك ، وقد رويتم أنتم عن رسول الله - عليه السلام - أنه رد ماعزا عندما جاء فأقر عنده بالزنا أربع مرات ، ثم رجمه بعد ذلك ، ورويتم أن رسول الله - عليه السلام - قال لأنيس : "اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " ، فجعلتم هذا دليلا على أن الاعتبار بالإقرار بالزنا مرة واحدة ; لأن ذلك ظاهر قول رسول الله - عليه السلام - : "فإذا اعترفت فارجمها " ولم تجعلوا حديث ماعز قاضيا على حديث أنيس هذا المجمل ، فيكون الاعتراف المذكور في حديث أنيس المجمل هو الاعتراف المذكور في حديث ماعز المفسر ، فإذا كنتم قد [فعلتموه ] هذا فيما

                                                [ ص: 162 ] ذكرنا ، فما تنكرون على من فعل في أحاديث الزكوات ما وصفنا ؟ بل حديث أنيس أولى أن يكون معطوفا على حديث ماعز ; لأنه ذكر فيه الاعتراف ، وإقراره مرة واحدة ليس هو اعتراف الزاني الذي يوجب الحد عليه في قول مخالفكم ، وحديث معاذ وابن عمر وجابر - رضي الله عنهم - في الزكاة إنما فيه ذكر إيجابها فيما سقي بكذا أو فيما سقي بكذا ، فذلك أولى أن يكون مضادا لما فيه ذكر الأوساق ، من حديث أنيس لحديث ماعز - رضي الله عنه - .

                                                التالي السابق


                                                ش: تقرير السؤال أن يقال : لا نسلم التضاد بين هذه الآثار ; لأن الأحاديث التي فيها ذكر الأوساق مفسرة ، والأحاديث المطلقة التي لم يذكر فيها المقدار مجملة ، فالعمل بالمفسر أولى من العمل بالمجمل ; لأن ما في المفسر يبين ما في المجمل ، فيكون المفسر قاضيا على المجمل فيحمل عليه ، ويعطف حكمه على حكمه .

                                                وتقرير الجواب أن يقال : ما ذكرتم محال ; لأنه - عليه السلام - أخبر في أحاديث معاذ وابن عمر وجابر أن الواجب الذي أمره من العشر أو نصف العشر فيما يسقى بالأنهار أو بالعيون أو بالدالية والسانية ، فكان الذي يقتضيه الكلام هو الوجوب في كل ما خرج مما سقي بهذه الأشياء ، فإذا كان كذلك كيف تكون تلك الأحاديث التي فيها المقادير قاضية على هذه الأحاديث كما فيها من التضاد ؟ فإذا ثبت التضاد وجب طلب المخلص ، ووجهه مما ذكرناه .

                                                ثم أشار بقوله : "وقد رويتم أنتم . . . " إلى آخره إلى أنهم قد عكسوا فيما قالوا حيث تركوا العمل به في حديث ماعز وحديث المرأة اللذين اعترفا بالزنا ، بيان ذلك أنكم رويتم أن النبي - عليه السلام - رد ماعزا عندما جاء فأقر عنده بالزنا أربع مرات ، ثم أمر رسول الله - عليه السلام - برجمه وهذا مفسر ، ورويتم أيضا أنه - عليه السلام - قال لأنيس بن الضحاك الأسلمي : "اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " وهذا مجمل ، فجعلتم هذا دليلا على أن الاعتبار في الإقرار بالزنا مرة واحدة ، فعملتم بهذا المجمل وتركتم العمل بالمفسر حيث لم تشترطوا في إقامة الحد على الزاني إلا إقراره مرة واحدة ، فإذا كنتم قد

                                                [ ص: 163 ] فعلتم هذا في هذه القضية ، فكيف تنكرون على من فعل ذلك في أحاديث الزكوات ما وصفنا ؟ بل كان الذي ينبغي عطف حديث أنيس على حديث ماعز ; لأن الاعتراف مذكور في حديث ماعز ، وإقرار الرجل مرة واحدة لا يوجب عليه الحد عند مخالفيكم ; لأنهم يشترطون الإقرار أربع مرات أخذا بما في حديث ماعز ، فكان هو القاضي والمعطوف عليه ، وحديث معاذ وابن عمر وجابر - رضي الله عنهم - يبين إيجاب الزكاة فيما يسقى بكذا وفيما يسقى بكذا ، فلا شك أنه مضاد لما فيه ذكر المقادير وهي الأوساق ، والتضاد بينهما أظهر من التضاد الذي بين حديث ماعز وأنيس ، وإليه أشار بقوله : "فذلك أولى أن يكون مضادا لما فيه ذكر الأوساق . . . " إلى آخره .

                                                ثم اعلم أن حديث ماعز أخرجه الجماعة مختلفين ومتفقين من رواية أبي سعيد وبريدة وأبي هريرة ويزيد بن نعيم بن هزال وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة - رضي الله عنهم - ، على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى ، في كتاب الحدود .

                                                وأما حديث تلك المرأة التي رجمت فأخرجه الجماعة أيضا من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني وعمران بن حصين - رضي الله عنهم - على ما يجيء إن شاء الله تعالى .




                                                الخدمات العلمية