الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3012 3013 3014 ص: ثم قد روى قبيصة بن المخارق عن النبي - عليه السلام - ما قد دل على ذلك أيضا .

                                                حدثنا يونس ، قال : ثنا سفيان ، عن هارون بن رئاب ، عن كنانة بن نعيم ، عن قبيصة بن المخارق : " [أنه تحمل بحمالة ، فأتى النبي - عليه السلام - فيها ، فقال : نخرجها عنك من إبل الصدقة أو نعم الصدقة ، يا قبيصة إن] المسألة حرمت إلا في ثلاث رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت بماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش ثم يمسك ، ورجل أصابته حاجة حتى تكلم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه أن قد حلت له المسألة ، حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش ثم يمسك ، وما سوى ذلك من المسألة فهو سحت " .

                                                حدثنا ابن مرزوق ، قال : ثنا سليمان بن حرب ، قال : ثنا حماد ، عن هارون بن رئاب ، عن كنانة بن نعيم العدوي ، عن قبيصة بن المخارق ، عن النبي - عليه السلام - نحوه .

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال : ثنا الحجاج بن المنهال ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن هارون بن رئاب . . . فذكر بإسناده مثله . وزاد : "رجل تحمل حمالة عن قومه أراد بها الإصلاح " .

                                                فأباح رسول الله - عليه السلام - في هذا الحديث لذي الحاجة أن يسأل لحاجته حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش ، فدل ذلك أن الصدقة لا تحرم بالصحة إذا أراد بها الذي تصدق بها عليه سد فقره ، وأنها تحرم عليه إذا كان يريد بها غير ذلك من التكثر ونحوه ، ومن يريد بها ذلك فهو ممن يطلبها لسوى المعاني الثلاثة التي ذكرها رسول الله - عليه السلام - في حديث قبيصة الذي ذكرنا ، فهي عليه سحت .

                                                [ ص: 29 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 29 ] ش: أي : قد روى قبيصة عن النبي - عليه السلام - ما قد دل على ما ذكرنا من التأويل في قوله - عليه السلام - : " لا تحل الصدقة لذي مرة سوي " ، وفي قوله - عليه السلام - : "ولا لقوي مكتسب " .

                                                وأخرجه من ثلاث طرق :

                                                الأول : موقوف ، إسناده صحيح ، عن يونس بن عبد الأعلى ، عن سفيان بن عيينة ، عن هارون بن رئاب -بكسر الراء بعدها همزة وفي آخره باء موحدة - التميمي أبي الحسن البصري ، وثقه النسائي وغيره ، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي .

                                                عن كنانة بن نعيم العدوي أبي بكر البصري ، وثقه العجلي وابن حبان ، وروى له هؤلاء المذكورون عن قبيصة [بن] المخارق الهلالي الصحابي رضي الله عنه .

                                                الثاني : مرفوع بإسناد على شرط مسلم : عن إبراهيم بن مرزوق ، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري وأبي داود ، عن حماد بن زيد ، عن هارون . . . إلى آخره .

                                                وروي أيضا عن حماد بن سلمة ، عن هارون .

                                                وأخرجه مسلم ثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد ، كلاهما عن حماد بن زيد -قال يحيى : أنا حماد بن زيد - عن هارون بن رئاب ، قال : حدثني كنانة بن نعيم العدوي ، عن قبيصة بن مخارق الهلالي ، قال : "تحملت حمالة ، فأتيت رسول الله - عليه السلام - أسأله فيها فقال : أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها . قال : ثم قال : يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش -أو قال : سدادا من عيش- ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة ، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش -أو قال : سدادا من عيش- فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا " .

                                                [ ص: 30 ] الثالث : أيضا مرفوع بإسناد صحيح ، عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن الحجاج بن منهال الأنماطي ، عن حماد بن سلمة ، عن هارون بن رئاب . . . إلى آخره .

                                                وأخرج أبو داود : عن مسدد ، عن حماد بن زيد ، عن هارون بن رئاب . . . إلى آخره نحو رواية مسلم .

                                                وأخرجه النسائي والدارقطني والطبراني وابن أبي شيبة نحوه أيضا .

                                                قوله : "رجل " مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : الأول : رجل .

                                                قوله : "تحمل حمالة " الحمالة -بفتح الحاء وتخفيف الميم - : هي المال الذي يتحمله الإنسان أي : يستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البين ، كالإصلاح بين القبيلتين ونحو ذلك .

                                                وقال الخطابي : الحمالة : الكفالة ، والحميل : الكفيل والضمين ، وتفسير الحمالة : أن يقع بين القوم التشاجر في الدماء والأموال ، وتجذب بسببه العداوة والشحناء ، ويخاف منها الفتن العظيمة ، فيتوسط الرجل بينهم ويسعى في إصلاح ذات البين ويضمن ما لأصحاب الدم أو المال يترضاهم بذلك حتى تسكن الثائرة وتعود بينهم الألفة .

                                                فهذا رجل صنع معروفا وابتغى بما أتاه إصلاحا ، فليس من المعروف أن تورك الغرامة عليه في ماله ، ولكن يعان على أداء ما تحمله منه ، ويعطى من الصدقة قدر ما تبرأ به ذمته ويخرج عن عهدة ما تضمنه .

                                                قوله : "ثم يمسك " عن السؤال .

                                                [ ص: 31 ] قوله : "جائحة " بالجيم أولا ثم بالحاء المهملة ، وهي في غالب العرف ما ظهر أمره من الآفات كالسيل يغرق متاعه ، والنار تحرقه ، والبرد يفسد زرعه وثماره ، ونحو ذلك .

                                                فإذا أصاب الرجل شيء من ذلك وافتقر حلت له المسألة ووجب على الناس أن يعطوه الصدقة من غير بينة يطالبونه بها على ثبوت فقره واستحقاقه إياها .

                                                قوله : "قواما " بكسر القاف وهو ما يقوم بحاجته ويستغني به .

                                                و"السداد " : بكسر السين المهملة : ما يسد به خلته ، والسداد -بالكسر أيضا- كل شيء سددت به حالا ، ومنه سداد الثغر وسداد القارورة ، والسداد بالفتح إصابة المقصد .

                                                قوله : "حاجة " أي : فقر وفاقة .

                                                قوله : "من ذوي الحجى " . بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم مقصور ، وهو العقل ، وقال النووي : إنما شرط الحجى تنبيها على أنه يشترط في الشاهد التيقظ ، فلا يقبل من مغفل ، وأما اشتراط الثلاثة فقال بعض أصحابنا : هو شرط في بينة الإعسار فلا يقبل إلا من ثلاثة لظاهر هذا الحديث .

                                                وقال الجمهور : يقبل من عدلين كسائر الشهادات غير الزنا ، وحملوا الحديث على الاستحباب ، وهذا محمول على من عرف له مال فلا يقبل قوله في تلفه والإعسار إلا ببينة ، وأما من لم يعرف له مال فالقول قوله في عدم المال .

                                                وقال الخطابي . : وليس هذا من باب الشهادة لكن من باب التبين والتعرف ; وذلك لأنه لا مدخل لعدد الثلاثة في شيء من الشهادات ، فإذا قال نفر من قومه أو جيرانه أو من ذوي الخبرة بشأنه : إنه صادق فيما يدعيه ; أعطي الصدقة .

                                                قلت : الصواب ما قاله الخطابي ; لأنه أراد أن يخرج بالزيادة عن حكم الشهادة إلى طريق انتشار الخبر واشتهاره ، وأن القصد بالثلاثة ها هنا الجماعة التي أقلها أقل الجمع لا نفس العدد .

                                                [ ص: 32 ] قوله : "من قومه " إنما قال هذا لأن قومه من أهل الخبرة بباطنه ، والمال مما يخفى في العادة فلا يعلمه إلا من كان خبيرا بصاحبه .

                                                قوله : "فهو سحت " أي : حرام .

                                                ويستفاد منه أحكام :

                                                الأول: أن السؤال عند عدم الحاجة حرام وأخذه سحت

                                                الثاني : أن الحد الذي ينتهي إليه العطاء في الصدقة هو الكفاية التي يكون بها قوام العيش وسداد الخلة ، وذلك يعتبر في كل إنسان بقدر حاله ومعيشته ليس فيه حد معلوم .

                                                الثالث : أن مجرد دعوى الإعسار لا تقبل ، اللهم إلا إذ كان مشهورا بين قومه بالفقر والفاقة ; فإن القول قوله حينئذ .

                                                الرابع : فيه دليل على وجوب المساعدة من أصحاب الأموال والنظر في حق من ابتلي بالحاجة ، أو أصيب بالجائحة ، أو تحمل بالحمالة .

                                                الخامس : أنه يدل على أن الصدقة تحل للفقير الصحيح القادر على الاكتساب ; لأنه لم يشترط في هذه الصور الثلاث التي يحل فيها السؤال : أن يكون السائل عاجزا عن الكسب لأجل الزمانة ونحوها ، وإليه أشار بقوله : فأباح رسول الله - عليه السلام - في هذا الحديث . . . إلى آخره .

                                                قوله : "فدل ذلك أن الصدقة " أي : دل ما أباحه النبي - عليه السلام - من السؤال لذي الحاجة إلى أن يصيب قواما من عيش أو سداد من معيشة على أن الصدقة لا تحرم بالصحة والقدرة على الاكتساب ، ولكن بشرط أن يكون مراد المتصدق عليه : سد الفقر ودفع الحاجة ، وأما إذا أراد بها التكثر والتجمل وغير ذلك فهو حرام ; لأنه يكون ممن يطلب الصدقة لغير المعاني الثلاثة المذكورة في الحديث .




                                                الخدمات العلمية