الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثالثا: ضوابط الحوار بين الحضارات:

            تتعدد ضوابط الحوار بين الحضارات، إلا أن من أهمها بالنسبة للمسلم:

            1- عدم التنازل عن الحق، ولو كثر المخالفون:

            ويستنبط هذا الضابط من محاورة نبي الله إبراهيم، عليه السلام، قومه، فقد قص الله علينا أنه حاور قومه في عبادة الكواكب [1] ، وأعلن، بعد هذه المحاورة، الحكم على عبادتهم بأنها شرك: ( يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) (الأنعام: 78-79)، وهكذا ينبغي لكل محاور أن يدور مع الحق حيث دار، ولا يلتفت إلى كثرة المخالفين.

            والتنازل عن الحق ولو كان يسيرا "يؤدي إلى إقرار الأخطاء أو انتقاص الحقائق، أو محاولة الوصول مع الخصم إلى أنصاف الحلول فيما لا يقبل التجزئة؛ لأن ذلك خداع وكذب من جانب، وإضرار بالخصم نفسه حينما تقدم له الحقيقة ناقصة مبتورة، لرغبة أو رهبة..." [2] .

            وعندما قال كفار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه, وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت منه بحظك، أنزل الله عز وجل: ( قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد ) [ ص: 104 ] ( ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين ) (الكافرون: 1-6)، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن مداهنة الكفار، فقال: ( فلا تطع المكذبين * ودوا لو تدهن فيدهنون * ولا تطع كل حلاف مهين ) (القلم: 8-10).

            و الإدهان: اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام، يقال: داهن الرجل في دينه، وداهن في أمره، إذا خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر، والمعنى تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك ويتركوا بعض مالا ترضى فتلين لهم ويلينون لك [3] .

            وبشكل عام، فإن التربية الإسلامية في منهجها التحاوري مع الحضارات الأخرى تركز على تبيين الحق وإظهاره وعدم التنازل عنه، ولو كثر المخالفون.

            2- عدم المناداة بالحوار في حال رفض (الآخر) لكل أشكال الحوار:

            وفي حال رفض الطرف (الآخر) لكل أشكال الحوار، وظهور عدم رغبته في التعايش السلمي، وفي حال اندفاعه إلى محاربة الإسلام والوقوف بوجه الدعوة إليه، والعمـل على الحـد من انتشـارها، والسـعي إلى تدمـيرها، قتـالا أو إخراجا من الديار، أو معاونة للمعتدين، في مثل هذه الحالة يصعب على المسلمين أن ينادوا بالحوار والتعايش السلمي [4] . [ ص: 105 ]

            ويخطئ بعض الناس في فهم الحوار، عندما يحصرون أهدافه في التفاهم والتعايش السلمي فقط، إذ ليست هذه سنة الله في خلقه، فلا يزال الناس مختلفين إلا من رحم ربك، ولا يزال الصراع بين الحق والباطل مستمرا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

            صحيح أن من أهداف الحوار في الإسلام التفاهم والوصول إلى الحق، ولكن هـذا الهـدف لا يتحقـق في كل مرة وفي كل قضية، إذ أن أغلب الناس لا ينصاعون للحق ولا يستجيبون له، بل يتبعون الهوى وما تشتهيه الأنفس، وفي مثل هذه الحالة ينبغي أن تتحقق أهداف أخرى، من أهمها:

            أ- إبلاغ الحق إلى الخصم، إعذارا إلى الله عز وجل، وذلك بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

            ب- بيان الباطل، الذي عليه الخصم، والرد على الشبهات والطعون الموجهة ضد الحق، وكشف حقيقة ما عليه الخصم من الزيف والزور والبهتان، ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة[5] ، قال تعالى: ( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ) (الأنعام: 55). [ ص: 106 ]

            إن أشكال الحوار، التي يقررها منهج التربية الإسلامية، تؤكد أنه منهج وسط لا مغالاة ولا مجافاة فيه، فهو منهج متوازن، يوازن بين متطلبات العلاقات العامة في السلم وفي الحرب، فوضع للسلم أحكاما تخصه، ومنها: التعاون على البر والتقوى من غير إثم ولا قطيعة رحم: قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) (المائدة: 2)، ومعنى الآية: "لا تحملنكم عداوة قوم على أن تعتدوا عليهم من أجل أن صدوكم عن المسجد الحرام، ونزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل؛ لأنهم كانوا قد صدوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية، فنهاهم الله عن قتلهم" [6] .

            وفي الحديث الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنهما، قالت: "قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت: يا رسول الله، قدمت علي أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: ( نعم، صلي أمك ) [7] . [ ص: 107 ]

            ومنها: حسن الجوار؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الجيران ثلاثة، فجار له حق، وهو أدنى الجيران، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، فأما الذي له حق واحد فجار مشرك، له حق الجوار، وأما الذي له حقان فجار مسلم، لـه حـق الإسـلام وحـق الجـوار، وأما الذي لـه ثلاث حقوق فالجار ذو الرحم، له حق الرحم وحق الإسلام وحق الجوار، وأدنى حق الجوار أن لا تؤذ جارك بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها ) [8] .

            كما وضع منهج التربية الإسلامية للحرب ضوابط وشروطا تحكمها، وسلك بذلك، في صراعه وتدافعه مع أعدائه مسلكا حضاريا، فهناك احترام العهود، والمواثيق، واحترام المقدسات ودور العبادة، والمعاملة الحسنة لأسرى الحرب، إلى غير ذلك مما هو مبثوث في كتب التراث الإسلامي [9] .

            3- أن لا يؤدي الحوار إلى الاعتراف بالأديان المحرفة:

            من الضوابط المهمة في الحوار الحضاري، أن لا يؤدي إلى الاعتراف بالأديان السماوية بصورتها المحرفة على أنها حق من عند الله؛ أو الإقرار بصحة اعتناق الآخرين الكتب السماوية وأنها توصل إلى الجنة وإلى مرضاة الله، فهذا يؤدي إلى الاعـتراف بالباطـل وإطفاء الصبغة الشرعية عليه؛ ولأن هذا يخالف ما وصف به القرآن الكريم من أنه مهيمن على الكتب السماوية، قال تعالى: [ ص: 108 ] ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) (المائدة: 48)، "فالقـرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منها فهو حق وما خالفه منها فهو باطل" [10] ، ومعنى ( ومهيمنا عليه ) : "أي مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية..." [11] .

            والدين عند الله هو الإسلام، كما قال تعالى: ( إن الدين عند الله الإسلام ) (آل عمران: 19)، ولا يقبل الله من الأديان غير الإسلام، قال تعالى: ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل ) (آل عمران: 85).

            وقال صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهـودي، ولا نصراني، ثـم يموت ولـم يؤمن بالذي أرسلـت به، إلا كان من أصحاب النار ) [12] .

            4- عدم حصر الحوار في المجال السياسي، وإهمال الحوار الدعوي:

            إن الحوار، الذي يدعو إليه الإسلام يكون بالدرجة الأولى: الحوار الدعوي، وهو المشار إليه في قوله تعالى: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) (آل عمران: 64). [ ص: 109 ]

            غير أن بعض المنخرطين في ملتقيات الحوار، يؤخذ عليهم: "تسليمهم لمحاوريهم من غير المسلمين بأن الحوار النزيه يقتضي الفصل بين الحوار والدعوة! كما صرح بعضهم قائلا: "إن الحوار، الذي نفهم ليس دعوة مبطنة؛ فمن التزم الحوار وقبله نهجا، يكف عن الدعوة والتبشير في الوقت الذي فيه يحاور"؛ وأعجب من ذلك أن يشترط بعض المحاورين المسلمين عدم الحوار في قضايا الاعتقاد! ففيم الحوار إذا؟ وعلام اللقاء؟ إننا معشر المسلمين أسعد الناس بالحوار في مسائل الاعتقاد، فكيف نهدر مكمن قوتنا، وأساس تفوقنا، وسر خيريتنا؟" [13] .

            5- أن يكون الحوار بالتي هي أحسن:

            هناك طريقتان للحوار الفكري في جميع مجالاته: "طريقة العنف، التي تعتمد مواجهة المحاور بأشد الكلمات، وأقسى العبارات، بحيث يتم التركيز على كل ما يساهم في إيلامه وإهانته، دون مراعاة لمشاعره وأحاسيسه، ولا شك أن هذه الطريقة إنما تنتج المزيد من الحقد والعداوة والبغضاء، وتبعد عن الأجواء، التي تساهم في الوصول إلى النتائج الطيبة.

            وهناك طريقة أخرى تعتمد اللين والرفق، وتعتبر الحوار وسيلة للوصول إلى الهدف، وقد ركز الإسلام على الطريقة الثانية في جميع أساليب الحوار من أجل الوصول إلى المعرفة، وأطلق على هذا الأسلوب مصطلح ( التي هي أحسن ) ؛ ليكون طابع الحوارات الإسلامية في كل المجالات" [14] . [ ص: 110 ]

            6- توفير المناخ الطبيعي للمتحاورين:

            لا بد أن يتمتع كلا من طرفي الحوار بالحرية الفكرية، بحيث يستطيع كل منهما أن يعبر عن آرائه وأفكاره، دون أن يكون فريسة لهيمنة الإرهاب الفكري والنفسي؛ ومنهج التربية الإسلامية يقر هذا المبدأ، بل يجد المتتبع للحوارات، التي أجراها النبي صلى الله عليه وسلم "أنه حاول في أكثر من مناسبة توفير المناخ الطبيعي للأطراف، الذين أدار عملية الحوار معهم، من خلال تأكيده على جانب البشرية فيه، فهو بشر مثلهم لا يملك أية قوة غير عادية في تكوينه الذاتي" [15] ، وفي هذا يقول الله تعالى: ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) (الأعراف: 188)، ويقول تعالى: ( قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل ) (يونس: 108).

            غير أن "الإشكالية الحقيقية في نموذج الحوار الحضاري هي أن العالم يعيش في هذه الآونة الأخيرة، حقيقة لا مفر منها في هذا السياق، وهي أن الحضارة الغربية الأقوى على كافة الأصعدة، العلمية والتقنية والعسكرية والاقتصادية، وبالتالي فهي القادرة على تفعيل العوامل الخاصة بالتفاعل [ ص: 111 ] الحضاري، ووفقا لهذا الخلل، يسوق منظرو ومخططو فكرة النظام العالمي الجديد معطياتهم، التي يمكن أن تهدد الجهود المخلصة للحوار الحضاري..." [16] .

            ولأجل إبراز محاسن الإسلام وتعريف الناس بفضائل الحضارة الإسلامية ورد شبه المسيئين للإسلام من خلال قناة الحوار الحضاري ينبغي مراعاة ما يلي:

            أ- أن يكون الهدف والغاية من الحوار واضحا ومحددا، فحوار بلا هدف لا يمكن أن تتمخض عنه نتيجة ملموسة.

            ب- أن يكون المحاور ذا دراية تامة بدين (الآخر)، أو بأفكاره ومبادئه، مدركا لمراميه، وقد مهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن بقوله: ( إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ) [17] ليكون على استعداد تام لمحاورتهم.

            ج-مخاطبة الطرف الآخر (المحاور) حسب مستواه العلمي والفكري، فإن ذلك أدعى إلى نجاح الحوار.

            د- البدء بما هو مشترك، ومن ذلك التوحيد، قال تعالى: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) (آل عمران: 64). [ ص: 112 ]

            هـ- اختيار الأسلوب الأمثل للحوار، ولا شك أن أسلوب اللين والرفق هو الأمثل، وهو الأسلوب الذي أمر الله تعالى به نبيه موسى وأخاه هارون، عليهما السلام، فقال تعالى: ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) (طه: 43-44)، وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) (عمران: 159).

            و- اختيار المؤهلين للحوار، وهم من اتصف بالعلم والحكمة، وحسن البيان، ودماثة الخلق، والعدل والإنصاف، والأمانة والموضوعية، إلى غير ذلك من الصفات. [ ص: 113 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية