الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثانيا: التفاعل الحضاري في مجال العبادات:

            يعتبر التفاعل الحضاري والتأثر بالكفار في مجال العبادات غير جائز شرعا، سواء كان ذلك بالاختراع الكامل لأنواع وأشكال من العبادات والأذكار ونحو ذلك، أو كان بإضافات تحديدية للعبادات المشروعة تحديدا زمنيا أو مكانيا؛ ذلك أن مصدر العبادة، في الإسلام، هو معرفة الوحي، في الكتاب والسنة.

            1- مخالفة الكفار في مسائل الطهارة:

            تعتبر الطهارة من أول أبواب العبادات، وشرط أساس لكثير منها مثل: الصلاة، والطواف، وقراءة القرآن للحائض والجنب، وغير ذلك، وقد ورد الأمر بمخالفة الكفار في الطهارة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم إيذانا بالمفاصلة التامة بين [ ص: 63 ] الإسلام وغيره من الأديان في مجال العبادات، وقطعا لأي تأثر بالكفار في العبادات الأخرى: كالصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، ‏ ( فعن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى: ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ) (البقرة: 222)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اصنعوا كل شيء إلا النكاح، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه‏ ) [1] .

            قال ابن تيمية: "فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود، بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه" [2] .

            2- النهي عن التشبه بالكفار في عبادة الصلاة:

            أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفة فارس والروم وعدم التشبه بهم في أفعال الصلاة، فقال: ( إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا، وإذا صلى الإمام قائما فصلوا قياما، ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها ) [3] . [ ص: 64 ]

            قال ابن تيمية: "ففي هذا الحديث: أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة، وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمـائـهم في قيـامهـم وهـم قعـود، ومعلوم أن المأمـوم إنـمـا نوى أن يقوم لله لا لإمامه، وهذا تشديد في النهي عن القيام للرجل القاعد، ونهي أيضا عما يشبه ذلك وإن لم يقصد به ذلك، ولهذا نهى عن السجود لله بين يدي الرجل، وعن الصـلاة إلى ما عبـد من دون الله كالنار ونحوها، وفي هذا الحديث أيضا نـهي عما يشبه فعل فارس والروم وإن كانت نيتنا غير نيتهم لقوله:‏ ( ولا تفعلوا ) [4] . وجاء في الحديث أيضا: ( خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ) [5] .

            3- النهي عن التشبه بالكفار في عبادة الصوم:

            الصوم أحد أركان الإسلام الخمسة، وقد حرصت الشريعة الإسلامية أن يكون له وجوده المستقل، وسمته البارزة، وعلامته المميزة، التي تميزه عن غيره من صيام أهل الكتاب، ولذا حرص الإسلام على مخالفة أهل الكتاب في بعض مـمارساتـهم، كما في: السحور، والفطر، وغير ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون ) [6] . [ ص: 65 ]

            وحتى في صيام النفل استحب مخالفة أهل الكتاب في صيامهم، فحين صام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ...إذا كان عام المقبل، إن شاء الله، صمنا اليوم التاسع ) [7] .

            4- تعمد مخالفة المشركين في فريضة الحج:

            تعمد النبي صلى الله عليه وسلم في حجته مخالفة المشركين في هديهم وعبادتهم وحجهم، وكان ذلك من أبرز المظاهر والشعائر في حجة الوداع، ووقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم فعلا في مواطن عدة؛ وصدع به قولا في خطبة عرفة، فقال صلى الله عليه وسلم : ( ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث ... وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله... ) [8] .

            لقد أبطل الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان عليه أهل الجاهلية من شعائر، وقصد مخالفتهم في كثير من المناسك، من مثل:

            أ- إبطال التلبية الشركية: حيث كان المشركون يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك... إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك" [9] .

            ب- إباحة متعة الحج: فقد كان المشركون يحرمون العمرة في أشهر الحج. [ ص: 66 ]

            ج- اشتراط ستر العورة في الطواف: فقد كانت العرب تطوف بالبيت عريانا إلا قريش.

            د- مخالفة المشركين في النفرة من عرفة: فقد كان المشركون ينفرون من عرفة قبل الغروب، ويدفعون من مزدلفة بعد الشروق.

            ه- مخالفة المشركين في الوقوف بعرفة: فقد كانت قريش لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يبلغون عرفات.

            وذلك كله يدل دلالة واضحة على حرص منهج التربية الإسلامية على مخالفة أهل الكتاب، والمحافظة على تميزه الإسلامي في الجانب التعبدي، وعليه فإنه ينبغي تربية الناشئة على هذه التعاليم؛ ليكون لهم في حاضرهم ومستقبلهم طابعهم الإسلامي المتميز.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية