الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            ضوابط التفاعل الحضاري (وسائله وآثاره التربوية)

            الأستاذ / عبد الولي محمد يوسف

            ثالثا: تفويض الاجتهاد في التفاعل الحضاري لذوي الاختصاص والخبرة:

            يحتاج التفاعل الحضاري إلى ذوي الاختصاص، والخبرة، والبصيرة، في جميع مناحي الحياة الفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والعلمية.

            ولما كان في الناس "متفكرون باحثون عن الحقائق في المجالات العلمية البحتة، ومتفكرون قادرون على تدبير الأمور، وتخطيط الخطط الحكيمة الرشيدة في الأمـور الإداريـة، أو الأمـور العسـكرية، أو الشـؤون السياسية في الأمن أو الخوف، في السلم أو الحرب، كان من مقتضيات الواقعية إرشاد الجماهير [ ص: 176 ] العامة إلى رد أمورهم ذات الوجوه المختلفة، التي تحتاج تأملا دقيقا وبصرا نافذا إلى جماعة أولي الأمر منهم، القادرين على حل المشكلات، والتبصر السديد في المعضلات، والتوجيه إلى أرشد الآراء وأسدها، وذلك ليهتدي بعض هؤلاء إلى وجه الصواب عن طريق البحث والتفكر والاستنباط، قال تعالى: ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) (النساء: 83)، فهذا النص يرشد إلى رد الأمور إلى جماعة أولي الأمر من المسلمين، وهم:

            - العلماء المجتهدون، القادرون على استنباط الأحكام الشرعية، في شؤون الفقه الإسلامي.

            - والإداريون، القـادرون على استنبـاط أفضـل الأعمال والنظم في الشؤون الإدارية.

            - والمهرة في السياسة الشرعية، القادرون على استنباط أسد الخطط وأحكمها في الشؤون السياسية السلمية والحربية.

            - والقادة العسكريون المخططون، القادرون على استنباط أنجح الخطط في شؤون القتال والحرب.

            وهكذا في كل مجال يبرز فيه متخصصون ذوو مهارات أو قدرات فطرية أو مكتسبة، فإن الإسلام يوصي بأن يرد السواد الأعظم من الناس كل أمر إلى ذوي الاختصاص فيه" [1] . [ ص: 177 ]

            ومن الغريب جـدا أن يحترم التخصص في العلوم التجريبية البحتة، ويسفه من يخـوض فيها دون تأهل لذلك، فلا يفتي الطبيب - مثلا- في مسـألة هندسيـة، ولا الكيميـائي في مشـكلة فـلـكية، وحـتى التمثيل والرقص والغـنـاء لا يسمـح الخـوض فيـه إلا لـذوي الاختـصاص الحـاذقـين فيه، بينما الكثيرون مستعدون للإدلاء بدلوهم في أمور الدين والشريعة دون حرج ولا غضاضة.

            ومن ذلك ما نشاهده اليوم من التسرع في الخوض في مسائل التفاعل الحضاري بإصدار الفتوى، حيث ينادي دعاة التجديد والحداثة فتح باب التفاعل الحضاري على مصراعيه، دون الرجوع إلى أهل العلم؛ كما نشاهد أيضا تطبيقا عمليا لمعتقدات وعادات وأفكار ومناهج وأنظمة الأمم الأخرى دون رد إلى أهل الاختصاص، وقد حصل من هذه الفوضى، الناتجة عن عدم احترام التخصص شر عظيم، وخطر جسيم.

            والاستفادة من الخبرات الأجنبية أمر "يقرره المختصون في العلوم المراد نقلها من الغرب من أهل الدين والفقه والفكر الناضج، وعلماء وفقهاء الدين المختصين في فهم النصوص الشرعية" [2] .

            وإذا "ما أريد للمتخصص التربوي المسلم توجيه العلوم الحديثة توجيها إسلاميا، فيكون من البداهة بمكان الرجوع إلى القرآن الكريم، والسنة المطهرة؛ [ ص: 178 ] ليستخلص المبادئ والقواعد السامية، التي تضاهي غيرها من المبادئ والقواعد الوضعية، وإلا كان عمله كحاطب ليل يجمع ما هب ودب دون أن يكون لعمله جدوى، وقد يسيء حيث يريد الإحسان" [3] .

            لذلك، فإن المطلوب أن يكون لدى المختصين في التربية، والمعنيين بالتوجيه الإسلامي "الإدراك الكامل لأسس الإسلام العامة، ومبادئه الكلية: الاعتقـادية والفـكرية، حتى يكون لديهـم المعايير الصحيحة للعلوم والمعارف في مفهوم الإسلام، وتتكون لديهم ملكة النقد النزيه البصير؛ لاستخلاص المفيد من التراث العلمي في الحضارات بعامة، وفي حضارتنا بخاصة، حتى ينطلق الإبداع الإسلامي على هدى وبصيرة، يأخذ من القديم أرسخه، ومن الحديث أروعه" [4] .

            فالذي يفتقد إلى التخصص الشرعي لا يستطيع الإسهام في بناء التربية الإسلامية؛ ذلك أن التخصص الشرعي "بمثابة المنظار أو المجهر، الذي يتمكن من خـلاله الدارس أو الباحث من إدراك دروس وتطبيقات وتوجيهات تربوية في القرآن وفي السنـة النـبـويـة قـد لا يدركها غـيره، وبالتالي من يفقد التخصص لا يتمكن من الإسهام في بناء التربية الإسلامية" [5] . [ ص: 179 ]

            لذا فإن التخصص في الشريعة الإسلامية أمر لا بد منه عند الاقتباس من غير المسلمين، ولا يعنى هذا إلغاء أهمية التخصصات الأخرى عند التفاعل الحضاري، بل يحتاج إلى تلك التخصصات، فمثلا عندما نريد اقتباس وسائل وتكنولوجيا التعليم، فلا بد مع علماء الشريعة من إشراك المتخصصين في مجال تكنولوجيا التعليم.

            فالتوجيه الإسلامي لتقنية التعليم يحتاج إلى "متخصص في تقنية التعليم، بالإضافة إلى توافر قدر مناسب من المعرفة بالقرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والتـربية الإسـلامية، والفـكر الإسلامي؛ ولذلك فإن من فقد هذه المؤهلات لن يكون عمله معبرا عن التصور الإسلامي، بل قد يظهر التلفيق والتشويه فيمـا يكتب أو يبحث، ويجانبه الصواب، وبعبارة أخرى: فإنه يصعب كثيرا على المتخصـص في مجال تقنية التعليم دون تأهيل علمي في العلوم الشرعية، أن يخوض في مجال التوجيه الإسلامي لتقنية التعليم، كما يصعب ذلك كثيرا على المتخصص في مجال العلوم الشرعية دون تأهيـل علمي في مجال تقنية التعليم أن يدلي بدلوه في هذا الصدد، ومن هنا فإنه يستحسن إذا لم تتوافر عوامل التأهيل في العلوم الشرعية وتقنية التعليم معا، أن يقوم فريق عمل يضم متخصصين في كل من العلوم الشرعية، والتربية الإسلامية، وتقنية التعليم، بحيث يقوم كل منهم بمهمة معينة تدخل في نطاق تخصصه" [6] . [ ص: 180 ]

            والخلاصة، أنه يجب رد المسائل، التي تحتاج إلى اجتهاد [7] ورأي، إلى أهلها المختصين بها، وهم العلماء الربانيون، حتى وإن كانت المسألة لها علاقة بتخصص آخر، فإن العلماء يحتاج إليهم في بيان إباحة ذلك الشيء من عدمه، وهل هو مصلحة أو مفسدة؟ وهل هو عام لجميع الأفراد أم هو خاص ببعضهم دون بعض؟ إلى غير ذلك من التفاصيل.

            وبهذه المرجعية، التي مردها إلى أهل العلم العارفين بالكتاب والسنة، يكون التفاعل الحضاري محميا من الضلال والانحراف، ومحروسا من المستوردات الباطلة، والأهواء والعقائد الفاسدة. [ ص: 181 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية