الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثانيا: الآثار السلبية:

            وأما الجوانب السلبية، التي نتجت عن التفاعل الحضاري مع الغرب على المستوى الاجتماعي، فما أكثرها، والسبب في ذلك "أن الحياة الاجتماعية وما يسودها من قيم خلقية، وآداب سلوكية، وما يحيط بها من عادات وأعراف وتقاليد، هدف ضخم من أهداف التغريب، عملوا على تدميرها وضربها بمختلف الموجات المسمومة" [1] .

            ومن أبرز هذه الآثار:

            1- تقليد نمط العيش الغربي:

            كلما ظهرت في الغرب اتجاهات وطرق جديدة لارتداء الأزياء، وتناول الأطعمة، تمضي بعض المجتمعات الإسلامية وراء هذا الأمر بلا شعور "والدليل على هذا ما نراه في الشوارع وفي المدارس، وفي كليات الجامعة، وأحيانا يكون من الصعب، بسبب الموضة، التفرقة بين الطالب والطالبة، إنهما يلبسان نفس البنطلون ونفس البلوزة، أو القميص، وقصة الشعر واحدة، والشنطة يحملها الفتى في ذراعه كما تحملها الفتاة تماما" [2] ، وهكذا نجد أنه ما من ظاهرة من الظواهر الاجتماعية السالبة في الغرب، إلا ولها في بعض مجتمعاتنا قبول وترحيب.

            ولأبي الأعلى المودودي، رحمه الله، كلام نفيس أورده بطوله، حيث يقول: "إن كان هنـاك شيء ينبغي ويستـحق أن تأخذه أمـة عن الأمم الأخرى، [ ص: 215 ] فإنما هو نتائج أبحاثها العلمية، وثمرات قواها الفكرية، ومعطياتها الاكتشافية، ومناهجها العملية، التي تكون بلغت بها معارج الرقي في الدنيا.

            إن أي أمة في الأرض إذا كان في تاريخها أو في نظمها الاجتماعية أو في أخلاقها درس نافع، فمن الواجب أن نأخذ منها، ومن الواجب أن نستقصي أسباب رقيها وازدهارها بكل دقة وتمحيص، ونأخذ منها ما نراه ملائما لحاجاتنا وظروفنا؛ لأن هذه الأمور إرث مشترك بين الإنسانية.

            ولكننا إذا أعرضنا عن هذه الأمور الجوهرية، ورحنا نأخذ من أمم الغرب ملابسها، وطرقها للمعيشة، وأدواتها للأكل والشرب، بزعم أن فيها السر لنجاح تلك الأمم ورقيها، فلا يكون ذلك إلا دليلا على غباوتنا وبلادتنا وحماقتنا، فهل لأحد عنده العقل أن يعتقد أن كل ما أحرزه الغرب من التقدم والرقي في مختلف حقـول الحياة، إنـما أحرزه بالجاكيت والبنطلون، ورابطة العنق، والقبعة، والحذاء؟ أو أن أسباب رقيه وتقدمه أن يتناول طعامه بالسكين والشـوكة؟ أو أن أدواته للزينـة والرفـاهية، والمساحيق والمعاجين، والأصباغ، هي التي قـد سمـت به إلى أوج الرقي والكمـال؟ فإن لم يكن الأمر كذلك - والظـاهر أنه ليس كذلك- فما للتقـدميين المتشـدقـين بالإصـلاح عندنا لا يندفعون أو ما يندفعون إلا إلى هذه المظاهر؟ وما لهم لا يدركون أن كل هذا الجمـال والبريق، الذي يبهر الأنظار، ويبهت العقول في حياة أهل الغرب، إنـما هو ثمرة ما قد بذلوه تباعا طيلة قرون ماضية من الجهود المضنية المرهقة، وأن أي أمة في الأرض إذا ما عملت لرقيها بالجهد المتصل والصبر الجميل، [ ص: 216 ] والعزيمة المتـدفقة كما عمل أهل الغرب، فلا بد لها من إحراز ما يبهت العقول ويبهر الأنظار.

            يتضح من هذه الدلائل أن اختيار أمة للباس أمة غيرها، وأسلوبها للمعيشة، إنما هو حالة غير طبيعية لا تتفق بحال مع المعقولية، إذ أن الإنسان في الظروف العادية لا يتفكر ولا يكاد يجد بحاجة إلى أن يتفكر في أن يترك أسلوب الحياة السائدة في مجتمعه، ويختار طريق الأجانب للحياة، إن مثل هذه الفكرة لا تنشأ دائما إلا في ظروف غير طبيعية..." [3] .

            وهذه "الظروف غير الطبيعية" هي ما تمر به الأمة الإسلامية اليوم من ضعف وتفكك، وابتعاد عن دينها وقيمها الإسلامية، وتفوق عدوها علميا وعسكريا واقتصاديا.

            لقد أصبح تقليد الغرب في عباراته، وألفاظه، ولغته، وعاداته، وجميع سلوكياته أمرا تستسيغه الناشئة في البلدان الإسلامية، ظنا منهم أن ذلك شعار التقدم والحضارة، متناسين أن تقليد هذه الأمور يحمل في طياته تقليدا ضمنيا لآراء وأفكار وعقائد الغرب.

            وليس من شك في أن الأمة المسلمة إذا استعادت عزها ومجدها، وأخذت زمام الريادة والقيادة، فلا شك أنها إذ ذاك لن ترضى تقليد الغرب في حياته الاجتماعية. [ ص: 217 ]

            2- اختلاف الأطر المرجعية في المجتمع الإسلامي:

            لقد أدى التفاعل الحضاري إلى تعدد المناهج، والأطر المرجعية، التي يحتكم إليها أفراد المجتمع المسلم، فالبعض يتخذ العلمانية مرجعا، وآخرون يتحكمون إلى الشيوعية، وغير ذلك من المناهج المتعبة في العصر الحاضر.

            ولا شك أن اختلاف المناهج "يضعف من طاقة الأفراد الإنتاجية، ويشكل صعوبة في الاتصال الفكري بينهم، كما يؤثر في تماسكهم الاجتماعي، بينما اشتراك الأفراد والجماعات في أطر مرجعية متشابهة، ومعايير اجتماعية متقاربة، يشكل أساسا قويا من أسس انتماء الأفراد لجماعاتهم، وسهولة اتصالهم ببعضهم، فيحرصون على تأكيد نفس المثل والقيم والمصالح، فيقوى الانتماء للجماعة والمجتمع" [4] .

            وإذا تأكدت أهمية المرجعية الواحدة، فيجب أن تكون هذه المرجعية في ضوء المنهج الإسلامي، ومنسجمة مع عقيدة الأمة المسلمة وهويتها.

            3- التأثر بشعارات العصبية والقومية والوطنية:

            لقد تفجرت ينابيع الحضارة المعاصرة في أوروبا، التي "أخذت على عاتقها نشر العصبية والقومية والوطنية بصورة أشمل وأدق، مما جعل هذه النظرية الجاهلية تسيطر على العالم في مطلع هذا القرن... ومما يؤسف له أن مرض العنصرية انتقل إلى المسلمين، وفرق شملهم ووحدتهم، ولقد هبت الشعوب [ ص: 218 ] الإسلامية في الآونة الأخيرة، مثيرين للعنصريات، مختارين لها دون الوحدة الإسلامية، تأثرا بالعنصرية الغربية واقتداء بهذه الأمم الأوروبية والغربية..." [5] .

            إن الانفتاح، غير المنضبط، على الغرب، كانت له آثار وخيمة على الأمة المسلمة، من أخطرها محاولة القضاء على الوحدة الإسلامية، عن طريق تعميق هوة الخلاف بين أبناء الأمة الإسلامية، وإحياء القوميات الجاهلية، والنعرات القبلية المقيتة.

            ولا طريـق للوحـدة الإسـلامية إلا بنبذ العنصرية القبلية -عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( دعوها، فإنها منتنة ) [6] ، وتفعيل دور الأخوة الإسلامية في تماسك المجتمع، عملا بقول الله تعالى: ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ) (الحجرات: 10).

            4- تفكك الروابط الأسرية:

            من أخطر الآثار السلبية للتفاعل الحضاري محاولات تحويل المجتمع الإسلامي والأسرة المسلمة بالذات عن منهجها الإسلامي في الحياة وفي إدارة البيت وتربية النشء، ومحاولات نشر الوسائل التي يمكن أن تجعل الأسرة عرضة للتفكك والتمزق والانهيار، والنماذج أكثر من أن تحصى. [ ص: 219 ]

            وقد عالج منهج التربية الإسلامية هذا التفكك الأسري الموجود في الحضارة المعاصرة، بإيجاب الحقوق الزوجية، وحقوق الوالدين، وحقوق الأبناء، وحقوق الإخوة والأخوات، وبمراعاة هذه الحقوق وتأديتها كما أوجبها المنهج التربوي الإسلامي، حتى تكون الروابط الأسرية كما أرادها رب الأرض والسماء، وكما تقتضيها الفطرة السليمة.

            5- فقدان التربية الأسرية:

            أدى التفكك الأسري والتفسخ العائلي إلى أن فقدت الأسرة قدرتها على التربية، فأصبح الشارع ورفاق السوء هم الذين يقومون بوظيفة التربية الأسرية، وصدرت قرارات وتوصيات أممية تعطي الحرية المطلقة للمراهقين، ومن هذه القرارات: قرار مؤتمر السكان والتنمية الثالث بالقاهرة، الذي دعا إلى: "رفع ولاية الآباء على أبنائهم وبناتهم من حيث الرقابة الأخلاقية والتربية السوية، وحماية المراهقين والمراهقات عند تعاطيهم الجنس بغير زواج" [7] .

            ومن ثم، فإن التخلص من التربية الأسرية ودورها في حماية الناشئة من الفساد، هي خطة مدروسة من قبل أعداء هذا الدين [8] . [ ص: 220 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية