الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            عدم مصادمة النقل الصحيح

            أولا: التسليم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم :

            القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هما مصدرا التربية الإسلامية، فمنهما تستمد التربية أهدافها، وسماتها، وأصولها، وموضوعاتها، وكافة قضاياها في معالجة مجالات الحياة المختلفة. يقول أبو عراد: "فلابد للتربية من مصادر معينة تستقى منها ، وركائز ثابتة تعتمد عليها في بنائها، وانطلاقا من كون التربية الإسلامية نابعة في الأصل من الدين الإسلامي الحنيف؛ فإن مصادرها الأساسية هي نفس مصادر هذا الدين العظيم، الذي ارتضاه الله تعالى للعالمين" [1] .

            ولا يمكن لأي تربية "أن تنطلق وتنبثق من فراغ، وإنما تنبجس وتتوجه من خلال مصادر مرجعية تستمد منها أهدافها، وأفكارها، ومعتقداتها، والأصول المرجعية للتربية الإسلامية هي: القرآن الكريم والسنة النبوية، وسيرة الصحابة ومنهجهم التربوي، وكذلك جهود علماء المسلمين" [2] . [ ص: 140 ]

            فالقرآن الكريم يعتبر أول "وأهم مصدر من مصادر بناء الإنسان المسلم، لأنه نزل لهداية البشرية إلى ما فيه صلاح دنياهم وأخراهم" [3] ؛ والسنة المطهرة، المصدر الثاني، لأنها هي المفسرة والموضحة لما جاء في القرآن العزيز، ولها فائدتين عظيمتين في المجال التربوي [4] :

            الأولى: إيضاح المنهج التربوي الإسلامي المتكامل الوارد في القرآن الكريم؛ وبيان التفاصيل، التي لم ترد في القرآن الكريم .

            والثانية: استنباط أسلوب تربوي من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، ومعاملته الأولاد، وغرسه الإيمان في النفوس.

            وليس القرآن الكريم والسنة النبوية مجرد مصدرين من المصادر فحسب، بل هما المصدران والمقياسان لكل تفكيـر يراد وصفه بأنه إسلامي، مثلما أنهما المصدران والمقياسان لكل تشريع واستنباط فقهي، وذلك بالإضافة إلى كونهما المنبع الأساسي لكل وجهة نظر إسلامية [5] .

            والتربية المستمدة من الكتاب والسنة، فيها جميع الحلول للمشاكل العلمية والعملية، عقدية كانت أو سلوكية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، أو سياسية، [ ص: 141 ] وإن الإعراض عن الاقتباس منها والاسترشاد بها، ما هو إلا مظهر من مظاهر الغزو الثقافي الزاحف من حضارات وديانات أخرى، قد أفسدت علينا منهجنا التربوي الأصيل.

            لذلك، فإن التربية: "وهي تضطلع بمهمتها في تخريج أجيال مسلمة ذات هوية إسلامية في كافة مجالات العلم، لينبغي عليها التنبه إلى أمر مهم، وهو الحذر من الانفصام بين ثقافة المسلم وبين أصوله الدينية، وما هذا إلا تقليد أعمى، فمن خلال المدرسة والجامعة والمنهج، ومن خلال التربية والتوجيه الإعلامي والفكري تمكن الغرب من فرض رؤيته العلمانية، وأحيانا المادية على مساحات واسعة من علوم المسلمين، وآدابهم، وفنونهم، وأنشطتهم التربوية، وتحقق لهم - بعد جهد لم يكلل بالنجاح الكامل - الفصام بين العلوم بعامة وبين إطارها الإيماني" [6] .

            لهذا كله، لابد من توجيه التربية توجيها إسلاميا، وغربلة وتهذيب نتاج العلوم التربوية المعاصرة، الذي يعتبر بعضه خليطا من أفكار غربية وشرقية غير متجانسة مع التربية في ضوء الكتاب والسنة.

            والمسلم حين يتصدر لتقرير أمر ما، عليه أن يسلم الحكم لله ولرسوله، فلا يتقدم على أقوال الكتاب والسنة بقول أو فعل يخالفهما؛ لأن ذلك يناقض [ ص: 142 ] الإيمان: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) (النساء: 65).

            لقد حدد الإسلام مصدر التلقي بالكتاب والسنة، وحذر من كل طريق ومنهج من شأنه إضعاف صلة الناس بهذا المصدر: ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) (الأنعام: 153)، ولم يعط أحدا الخيار في أخذ مصدر التلقي أو تركه: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) (الأحزاب: 36).

            ومما سبق، يتبين أن التفاعل الحضاري يجب أن ينطلق من قاعدة: عدم مصادمة النقل الصحيح؛ لأنه بذلك يكون موافقا للشرع غير مصادم له، فالكتاب وصحيح السنة فيهما "تبيان كل شيء يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم، التى أمروا بـها، وتعبداتـهم، التي طوقوهـا في أعناقهم، ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كمل الدين بشهادة الله تعالى... فلا يقال قد وجدنا من النوازل والوقائع المتجددة ما لم يكن في الكتاب ولا في السنة نص عليه ولا عموم ينتظمه" [7] وبيان ذلك كما يقوله شيخ الإسلام: "أن الله بعث محمدا بجوامع [ ص: 143 ] الكلم، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة، التي هي قضية كلية وقاعدة عامة، تتناول أنواعا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى، فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد" [8] .

            أما إذا انطلق التفاعل الحضاري من غير الوحيين، الكتاب والسنة، فيكون بلا شك مخالفا لدين الله، ومغايرا لأحكامه، ومبدلا لشرعه، ولا يقبل مثل هذا النوع من التفاعل الحضاري من أحد، كائنا من كان، وسواء كانت هناك مبررات أو لم تكن.

            فعـن معـاذ بن جبـل، رضي الله عنه، أنه لما قدم من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما هذا؟ ) فقال: يا رسول الله، قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم، فأردت أن أفعل ذلك بك، قال: ( فلا تفعل، فإني لو أمرت شيئا أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) [9] .

            وعن السيدة عائشة، رضي الله عنها، قالت: ‏ ( لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكرت بعض نسـائه كنيسة رأينهـا بأرض الحبشـة يقـال لها: مـارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة، رضي الله عنهما، أتتا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها [ ص: 144 ] وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، ثم صوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله ) [10] .

            فالتفاعل الحضاري لا يتم على الأهواء، ولا على الآراء بمعزل عن الشرع، وإنما له مصادر تحكمه، وضوابط تقيده، وإن أهم تلك المصادر: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية