الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثانيا: ضوابط في اقتباس الصالح وتجنب الفاسد:

            إن من لوازم تحقيق المصلحة الشرعية أن تكون عملية التفاعل والاقتباس من غير المسلمين، عملية انتقاء واختيار، اختيارا للنافع الصالح، واجتنابا للفاسد الضار، وبهذه الكيفية تتحقق عملية التطور والتقدم المنشود، دون السقوط في مهالك الردى، التي سقط فيها أولئك القوم.

            وتدعو عملية التفاعل مع الثقافات الأخرى، واستثمار إيجابياتها النافعة، والبناء عليها في التواصل الحضاري "إلى العودة إلى أصول الإسلام في جوهره، دون أن ترفض المكتسبات الثقافية النافعة، سواء كانت من منبع إسلامي أم لا" [1] .

            وليس في التربية الإسلامية ما يقلل من شأن الأخذ بأسباب القوة والتقدم، بل جاء فيها الأمر بإعداد القوة، قال تعالى: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) (الأنفال: 60)، ليشمل -دون شك- إعداد القوة العسكرية، والاقتصادية، والصناعية، والعمرانية، وفي الحديث الصحيح: ( احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز ) [2] .. وهو دليل على [ ص: 133 ] مشروعية الأخذ بأسباب الحضارة النافعة. غير أن الأخذ بالأسباب المشروعة في ظل التقدم العلمي الهائل في وسائل الاتصال والمعلومات، يحتاج إلى عملية فرز الغث من السمين، والحلال من الحرام، وإلا اختلط الحابل بالنابل وضاع الحق في بحيرات الباطل.

            والتربية الإسلامية الواعية والناضجة، التي تقوم على النقد والتمحيص والانتقاء، هي طريق الخلاص من بعض النظريات في العلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعية، غير المتوافقة مع خصوصيتنا الثقافية والحضارية.

            ويعتبر "الانفتاح على التجارب الإنسانية والانتفاع بإيجابياتها، والأخذ بأقوم النظم والمناهج، التي ثبتت صلاحيتها، وسلامتها، ومنافعها، من الوسائل المساعدة على إنجاز الأعمال الكبيرة، التي تفيد الأمة والإنسانية نفعا عظيما. فالعالم تضيق جوانبه باستمرار، والتجربة الإنسانية حق مشاع لكل البشر، والحضارة الإنسانية إنما هي جماع إبداع الشعوب والأمم وخلاصة عطاءاتها عبر الأزمان والأحقاب، ولذلك يتوجب على الأمة الإسلامية أن تفيد من العطاء الحضاري الإنساني، وأن تتفاعل معه، وأن تضيف إليه وتسهم فيه" [3] .

            ومما هو جدير بالذكر أن اقتباس الأشياء النافعة في الحضارات وتجنب الفاسد فيها، لا يكون دائما وأبدا واضح المعالم لغير المتخصصين في الشريعة الإسلامية - من مفكرين وباحثين وغيرهم- وذلك لوجود تزاحم وتعارض بين [ ص: 134 ] المنافع المستجلبة والمفاسد المستدفعة، وهذا ما أوقع البعض في جعل بعض المصالح المتوهمة مصالح حقيقية، أو تصوير بعض المفاسد في ثوب المصلحة.

            لهذا كله فإنه من المهم الإشارة إلى بعض القواعد، التي يمكن أن تضبط التعارض بين المصالح والمفاسد، مثل:

            1- إذا اجتمـعـت المصـالح وأمـكن تحصيلـها جميعا حصـلناها جميعا، وإذا لم يمكن تحصيلها جميعا، قدم أكملها وأهمها وأشملها، يقول ابن القيم، رحمـه الله: "إن الشريعـة مبنـاهـا على تحصيل المصـالح بحسـب الإمكان، وأن لا يفوت منهـا شيء، فـإن أمـكن تحصيـلهـا كلـهـا حصـلت، وإن تزاحمت ولم يمـكن تحصيل بعضها إلا بتفويت البعض، قدم أكملها وأهمها وأشدها طلبا للشارع" [4] ، فتقدم المصلحة الضرورية على الحاجية، والحاجية على التحسينيـة، والدينيـة على الدنيوية، والعامة على الخاصة، والقطعية على الظنية، وهكذا...

            2- إذا اجـتـمـعت المفـاسـد المحضـة، "فإن أمـكن درؤهـا جميعا درأناها جميعا، وإن لم يمكن درؤها جميعا درأنا الأفسد فالأفسد، والأرذل فالأرذل" [5] . [ ص: 135 ]

            وهناك قواعد مهمة وضعها العلماء للترجيح بين المفاسد، من ذلك [6] :

            أ- تقديم المفسدة المجمع عليها على المفسدة المختلف فيها.

            ب- مراعاة أعظم المفسدتين ضررا بارتكاب أخفهما.

            ج- يتحمل الضرر الخاص بدفع الضرر العام.

            3- إذا اجتمعت المصالح والمفاسد، "فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلناها.. وإن تعذر الدرء والتحصيل، فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة، وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة" [7] وإذا تساوت المصلحة والمفسدة، قدمت المفسدة على المصلحة؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح [8] .

            ومما تقدم يتضح أهمية هذه القواعد عند النظر في التفاعل الحضاري، وأنه ينبغي للباحثين والمفكرين وكل من يخوض في هذا الباب أن يلتزم بالمنهج، الذي رسمه الإسلام، الذي يوازن بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وبين المصالح والمفاسد، هذا التوازن الذي يستند إلى عدم تفويت المصالح وعدم استجلاب المفاسد، وهذا هو الطريق العدل، الذي ينفتح على كل حضارات الدنيا، دون فقد الهوية الإسلامية والخصوصية الحضارية. [ ص: 136 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية