الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            - من أهم مجالات التفاعل الحضاري الجائز:

            تدور مجالات التفاعل الحضاري الجائز حول الوسائل المباحة في الحضارات الأخرى، وليس جوهر تلك الحضارات، ويمكن أن نجمل هذه الوسائل في وسيلتين، هما:

            الوسيلة الأولى: اقتباس أسرار العلوم الكونية:

            العلوم الكونية هي: "العلوم البحتة الخالية من التعليلات والتفسيرات الفلسفية الاستنتاجية، مثل: علوم الصناعات والزراعة، والآلات والتجارة، والطب والكيمياء والفيزياء، والعلوم الوصفية الخالية من التعليل والتفسير الفلسفي، وهي التي تصف الأشياء كما تثبتها المشاهدة الحسية" [1] .

            وأسرار العلوم هي المجال الأهم، الذي ينبغي أن تصرف فيه الهمم والعزائم.. ولكثير من الباحثين آراء مفيدة حول ما يجوز أخذه واقتباسه من الحضارات الأخرى في هذا المجال، نذكر منها: [ ص: 71 ]

            - "المعلومة المفيدة المثمرة ملك للإنسانية جمعاء؛ لأنها عبارة عن تراكم الخبرات المعرفية للبشرية، والتقدم التقني، الذي أحرزته الدول المتقدمة، وعمت آثاره أرجاء المعمورة هو أصلا ضمن نتائج المشترك، الذي يمكن استيعابه ونقله إلى العالم الإسلامي.. ومجالات التقدم التقني، تشمل التعامل مع المنتجات والمخترعات الحديثة، وتشمل السيطرة على صناعة الأسلحة باعتبارها مصدر قوة للمجتمعات المتقدمة، وتشمل أيضا الهيمنة على وسائل الإعلام والتحكم في وسائل المواصلات والاتصالات وغيرها" [2] .

            - الإسلام "لا يمنع من طلب علوم الكيمياء والتكنولوجيا والفيزياء والذرة والفضاء والجيولوجيا وغيرها من علوم عصرية.. والإسلام لا يمنعنا أبدا من العلم، الذي يستفيد منه المسلمون؛ والمسلمون في حاجة إلى العلوم العملية كحاجتهم إلى العلوم النظرية، لنبني المجتمعات الإسلامية، ونصنع الحديد والصلب، والأسلحة المختلفة، ونستفيد بثروات البلاد الإسلامية" [3] .

            - "لا حرج على المسـلـمين أن يقتبسوا من غيرهم أي نظام جزئي متى ما رأى أهـل الحـل والعقـد أن في ذلك نفعا للمجتمع المسلم وملائما لطبيعتهم وحضارتهم، كنظام المرور، أو توزيع البريد، أو تخطيط المدن، أو تنظيم الجيوش وتدريبهم، إلى غير ذلك، شريطة أن لا يخالف نصا ثابتا ولا قاعدة [ ص: 72 ] شـرعية، مع مراعاة تحوير ما يتم اقتباسـه حـتى يكون مـلائما للوضـع الإسلامي الصحيح" [4] .

            - من مجالات الاقتباس: "... الأسلوب العلمي في البحث وتحري الحقائق بصورة موضوعية، واستخدام أحدث الآلات والمخترعات في الصناعة وفي الزراعة وفي الطب، وكحب المغامرة والعمل الدؤوب، وضبط الأوقات، والدقة في الحساب والتنظيم والتخطيط في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية" [5] .

            لقد شجع الإسلام على "الترقي في سلم الكمال الإبداعي، ولم يمنع منه إلا ما غلبت فيه دواعي الفتنة في الدين، عقيدة أو سلوكا، أو كان في معظم أحواله ذريعة لنشر الفساد في الأرض.... أما اختراع وابتكار وتحسين الوسائل، التي تيسر أعمال الناس في حياتهم، وكذلك اختراع وابتكار وتحسين الأشكال والألوان وسائر أنواع الفنون الجميلة، التي تمتع النفس والحس مما لا تأثير له على عقيدة أو سلوك تأثيرا يفضي إلى الشر ومعصية الله، فكل ذلك مجالات واسعات منفتحات أمام الإنسان المسلم، يسابق فيها على مقدار استطاعته الإنسـانية، وعلى مقـدار مـا لديه من خيال خصيب، واختبار وتجربة وملاحظة وتقويم [6] . [ ص: 73 ]

            وفرق بين اقتباس القشور واقتباس أسرار العلوم الكونية، ذلك أن اقتباس القشور يؤدي إلى التبعية والذوبان واستمرارية ضعف المسلمين وتخلفهم، بينما يؤدي اقتباس أسرار العلوم الكونية إلى التقدم وتفوق المسلمين على الدول المتقدمة، كما كانوا في عصورهم الأولى، وحين تدرك الأجيال المسلمة أسرار هذه العلوم عندها تستغني عما عند الآخرين.

            فمنهج التربية الإسلامية يسمح باقتباس مجالات التفاعل الحضاري الجائز؛ لأنها لا تخالف الشرع، ولأنها تستند إلى الطرق اليقينية، والمسالك العقلية القاطعة أو الظنية، كتتبع الظواهر الحسية بالملاحظة الدقيقة، وبالاختبار والتجربة الكافية لإثبات الحقائق القطعية.

            وليس معنى هذا أن معارف الأمم والشعوب القديمة والحديثة كلها ثابتة عن طريق المسـالك القطعية، بل كثير منها يستند "إلى خرافات كثيرة وأوهام لا حصر لها... وأكثر الخرافات والأوهام انتشارا في الشعوب تلك التي تدعمها نزعات سياسية معينة، سواء ظهرت بثوب معتقدات دينية، أم روايات تاريخية، أم أفكار واتجاهات إلحادية، أم مذاهب اجتماعية أم اقتصادية" [7] .

            الوسيلة الثانية: استيراد منتجات الحضارات الأخرى:

            إن الإسلام لا يقر- بأي حال من الأحوال- تخلف المسلمين وتركهم لمواقع السيادة والريادة، ومن ذلك التخلف: التبعية الاقتصادية للدول الأخرى في جميع المجالات، وللأسف فإن كثيرا من الدول الإسلامية اليوم أصيبت [ ص: 74 ] بالتبعية الاقتصادية حتى في المواد الغذائية، رغم غنى بعضها والإمكانات الزراعية الضخمة لدى بعضها الآخر.

            والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، قال تعالى: ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) (النساء: 141)، هذا هو المفترض أن يكون عليه المسلمون، ولكن إذا احتاجت الدولة المسلمة إلى توفير الطعام وغيره إلى رعاياها، وعجزت عن استغلال مواردها، بسبب قصور الإمكانات المادية والبشرية، عندئذ يجوز لها أن تستورد من الدول الأخرى، غير المسلمة، شريطة أن يكون هذا الاستيراد خاليا من المخالفات الشرعية.

            فعمـلية الاستيـراد تحـكمها قاعـدة الحـلال والحـرام، وهـي القاعـدة، الـتي تسد منافذ الشهوات وأنواع غير السوي، أو الضار، التي تبدد جانبا مهما من الموارد [8] .

            فلا يـجـوز استيـراد سلـع وخـدمـات لا يجـوز استخـدامها في مجـال الاستهـلاك، أو في مجـال الإنتاج، كما لا يجـوز تصـدير ذلك إلى الآخرين، بل إن الإسـلام قـد شـدد في ذلك إلى درجـة أنه يمنـع تصـدير الطـيـبات طـالمـا أنـها تستـخـدم في إنتـاج الخبائث، مثـل منع تصـدير العنب لمن يتخذه خمرا [9] . [ ص: 75 ]

            ولما كانت الدولة الإسلامية في عهد النبوة غير قادرة على الاكتفاء الذاتي، لم تمنع رعاياها من استيراد البضائع من الدول الكافرة، "بل كانت الثيـاب تجلب إليهـم من اليمن ومصـر والشـام وأهلها كفار، وكانوا يلبسون ما نسجه الكفار ولا يغسلونه" [10] ولكن سرعان ما وصلوا إلى الاكتفاء الذاتي لما ملكوا البلدان وفتحوا الأمصار، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون اليوم، فيأخذوا ويستوردوا عند الحاجة مع السعي إلى الاكتفاء الذاتي.

            ويجب منع استيراد كل ما فيه ضرر على المسلمين، سواء كان الضرر دينيا، كالتمـاثيل والخـمر والحشيـش والصحف والكتب المنحرفة ونحو ذلك، أم دنيويا، كاستيراد المواد التي تنافس الصناعة الوطنية وتعيقها، أو المواد التي تتلف بسرعة، ونحو ذلك [11] .

            إن استيـراد أشياء الحضارة المادية ومفرزاتها الثقافية، وتكديس هذه الأشياء في بيوتنا وكأنها من صنعنا -كما ظن ذلك بعض المسلمين- ليس ذلك سبيل التقدم والتطور، بل هو سبيل إلى التبعية، ولهذا فإن المسؤولية على المربين كبيرة بأن يبينوا للناشئة أن تكديس منتجات الحضارة الغربية لا تأتي بالحضارة، فالحضارة هي التي تكون المنتجات، وليست المنتجات هي التي تكون الحضارة. [ ص: 76 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية