الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثانيا: الآثار السلبية:

            ومن أخطرها:

            1- تغريب التربية والتعليم:

            من الآثار الوخيمة للتفاعل الحضاري تغريب التربية والتعليم، فبإفسادهما تمكن الغرب من إفساد الناشئة وتربيتهم تربية غربية، ذلك أنهم أدركوا "أن أكثر الوسائل جدوى وقوة وتأثيرا لتحقيق غايته هي التركيز على الجانب التربوي والتعليمي" [1] ، وأيقنوا، كما يقول أحدهم: "إن السبيل الحقيقي للحكم على مدى التغريب أو الفرنجة هو أن نتبين إلى أي حد يجري التعليم على الأسلوب الغربي وعلى المبادئ الغربية وعلى التفكير الغربي... هذا هو السبيل الوحيد ولا سبيل غيره، وقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي في العالم الإسلامي، ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين، وقليل من الزعماء الدينيين" [2] .

            وقد تحقق للغرب ما أراد، ليس في يومنا هذا، بل منذ قرون مضت، حيث تمت السيطرة على التعليم في العالم الإسلامي [3] .

            ويتجلى أثر التعليم الغربي في الجماهير المسلمة في "أنه قد جعلهم غير دينيين في مظهرهم العامة، وأنهم يقرأون مواضيع لا صلة لها بالدين ولا تناقش [ ص: 204 ] فيها وجهة نظر الدين، ولم تعد الشريعة مرتبة بحياته الاجتماعية، وصار يعتقد عدم صلاحية الدين لإمداده بحاجاته الروحية، فضلا عن حاجاته الاجتماعية، وبذلك فقد الإسلام سيطرته على حياة المسلمين الاجتماعية، وأخذت دائرة نفوذه تضيق شيئا فشيئا حتى انحصرت في طقوس محددة..." [4] .

            2- هجر اللغة العربية:

            تظهر أهمية اللغة في كونها أداة للتعبير عن الأفكار والمبادئ والقيم، التي تمتلكها الأمة؛ واللغة العربية وعاء الدين والحضارة والفكر، وأداة التفاهم بين أفراد الأمة؛ ومحاربة لغة الأمة، التي هي بهذا المكانة، تعني محاربة الأمة في ثرواتها العقـدية والفـكرية والحضـارية، إذ لا يمكن فهم حقائق الدين وحضارة الأمة إلا عن طريق لغتها.

            وقد "أدرك أعداء الإسلام أن الشعوب الإسلامية مادامت على صلة وثيقة باللغة العربية، فإنها ستظل مرتبطة بالإسلام وبالقرآن، وستظل متمسكة بفكرة الوحدة الإسلامية الكبرى، ومن أجل ذلك أخذ أعداء الإسلام يوجهون مختـلف القـوى، ويتابعون ألوان الجهـود، ويتخـذون شتى الوسائل الممكنة لصد الشعوب الإسلامية عن اللغة العربية، وصرف الشعوب العربية عن اللغة العربية الفصحى" [5] . [ ص: 205 ]

            والمتأمل في أحوال المسلمين اليوم يجد أنهم، بسبب سوء التعامل مع عملية التفاعل الحضاري، انبهروا باللغات الغربية الوافدة، الإنجليزية والفرنسية والإيطالية وغيرها من اللغات، فأصبح المتكلم بلغة من تلك اللغات يوصف بأنه متعلم ومثقف، ومتحضر ومنفتح، وغير ذلك من الألقاب، كل ذلك تم بسبب شن المستعمرين حروبا شرسة على اللغة العربية في كل بلد إسلامي حلوا فيه، فعملوا على تغييبها وتهميشها، وذلك من خلال ثلاثة محاور: [6]

            الأول: فرض لغة المستعمر على البلاد.

            الثاني: الدعوة إلى إحلال العامية محل اللغة العربية الفصحى.

            الثـالـث: الدعـوة إلى كتـابة اللغـة العـربية أو لغـات المسـلمـين بالحروف اللاتينية.

            واستجابة لدعوة الغرب وحملاتهم هب دعاة التغريب إلى تطبيق محاربة اللغة عمليا في البلدان الإسلامية، فتم اقتراح استبدال الفصحى بالعامية، والدعوة إلى تطوير اللغة العربية، واتخاذ الحروف اللاتينية للكتابة العربية، ونقل اللغات الإسلامية غير العربية المكتوبة بالعربية إلى الحروف اللاتينية، وغير ذلك من وسائل القضاء على اللغة العربية، إضافة إلى ما حصل من جراء تفاعل الأمة الإسلامية مع الأمم الأخرى من اختلاط الألسن، والتفاخر باللغات الأجنبية الوافدة، وليس هذا إلا أثرا من الآثار السالبة للتفاعل الحضاري. [ ص: 206 ]

            لقد كان التعليم قبل اجتياح عاصفة الاستعمار البلدان الإسلامية يتم باللغة العربية الفصحى "إذ كان مطلوبا من الطلبة أن يدرسوا النحو والصرف والشعر، وحضور مجالس الأدب، وكانوا لا يغفر لهم إن هم ارتكبوا خطأ لغويا، وقد كان من واجب كل متعلم أن يتقن اللغة العربية" [7] ، وكان اعتماد اللغة العربية في التدريس من أهم العوامل، التي ساعدت على بناء منظومة ثقافية موحدة في تلك الدهور، بينما نجد اختلاف لغات التعليم في العصر الحاضر ينمي الخلاف والشقاق، الذي ابتلي به العالم الإسلامي.

            3- استعارة النظم والمناهج التعليمية الغربية:

            أصبح نظام التعليم في العالم الإسلامي، نتيجة احتكاكه بالغرب المتقدم ماديا، يستورد كما تستورد البضائع والسلع، وكأن عملية التربية عملية بيع وشراء، وقد تنبه لهذه الخطورة كثير من علماء المسلمين ومفكريهم، منذ عقود خلت، ومنهم الشيخ الندوي.. يقول رحمه الله:

            "إن للعلوم والكتب روحا وضميرا كالكائنات الحية... فالعلوم التي أنشأها الإسلام وصاغها في قالبه، قد سرت فيها روح الإيمان بالله، والتقوى والخشية لله، والفضيلة والإيمان بالآخرة، والعلوم التي وضعها اليونان أو رتبوها اشتملت على خرافاتهم، وعلى روحهم الجاهلية، وكذلك العلوم التي دونتها أمم أوروبا الملحدة، والكتب التي ألفها أدباؤها وفلاسفتها، قد سرى فيها الإلحاد [ ص: 207 ] والجمـود، والإيمـان بالماديات والمحسـوسات فقط، وقلة التقدير بما لا يأتي تحت الحس والوزن والعد والتجربة، وما لا يحصل له لذة أو نفع في الأخلاق، وسرت هذه الروح في علومهم وفلسفتهم، وأدبهم وشعرهم، وقصصهم وتمثيلهم.." [8] .

            وتحتاج سياسة التعليم في بلاد المسلمين إلى "تغيير شامل؛ لأنها أصبحت تسير عكس الاتجاه، الذي سار فيه أسلافنا..." [9] ، "ويجب أن تكون مناهج التعليم في بلاد المسلمين مستمدة من تعاليم الإسلام، سواء كانت مناهج دينية أو طبيعية أو كونية أو غيرها من المواد، التي تدرس في بلاد المسلمين، وألا يفصل الدين عن الحياة في شتى المجالات" [10] .

            إن اقتبـاس النظـريات الغربيـة في التربية وعـلم النفس والاجتماع وتوظيفها كما هي، أو تقريرها في المجتمعات الإسلامية دون نقد أو إبطال وكأنـها نظـريات علمية وحقائق ثابتة، ما هي إلا أثر من آثار التفاعل الحضاري المذموم [11] . [ ص: 208 ]

            وهي ليست حقائق علمية، بل ليست فرضيات، ناهيك عن أن تكون حقائق ثابتة "وهي لا تستطيع التجاوب مع متغيرات العصور، ومع اختلاف البيئات، وهي تبدو في نقلها إلى أفق الفكر الإسلامي كالثوب المهلهل، وقد كان نتاجها أجيال مهزومة، ضعيفة كليلة متهاوية" [12] .

            4- فتح المدارس الأجنبية:

            انتشرت المدارس والجامعات الأجنبية في البلدان الإسلامية خلال القرنين الأخيرين، وكانت أولى هذه المدارس إنشاء هي الكلية السورية الإنجيلية في بيروت سنة 1866م، ثم كلية الأستانة، ثم الجامعة الأمريكية بالقاهرة سنة 1919م، وتهتم تلك الجامعات والمدارس بالقسم الداخلي وخاصة للبنات، كما يهتمون بإنشاء دور لإيواء الطالبات المغتربات، حيث يؤدي ذلك إلى انتزاعهن من بيئتهن المسلمة، ووقوعهن تحت سيطرة الغرب مباشرة [13] .

            5- ابتعاث الطلاب إلى الغرب:

            لقد تنبه الغرب لأهمية الابتعاث ودوره في تضليل وإفساد أبناء المسلمين، ويعبر عن ذلك أحدهم بقوله: إن "واحدا من أهم القطاعات الاستراتيجية للطلاب، هم أولئك الذين يقفون على عتباتنا، ذلك أن أعدادا كبيرة من كل [ ص: 209 ] بلاد العالم تدرس الآن في أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا، وإن الانطباع الذي يأخذه معهم هؤلاء الرجال والنساء إلى أوطانهم، وكثير منهم سوف يتولون وظائف مهمة، ليتوقف إلى حد كبير على الترحيب والحب والصداقة، التي يظهرها المسيحيون، الذين يقابلونهم، ويجب أن نتذكر جيدا أن الطالب، الذي يعود ليعمل كمبشر بين شعبه من المحتمل أن يكون أفضل بكثير من أي أجنبي آخر" [14] .

            يتضح من هذا أن وسائل إفساد المسلمين متنوعة ومتعددة، وكلها تعمل على تقويض المعتقد الصحيح واجتثاثه من نفوس المسلمين، والابتعاث ما هو إلا واحد من تلك الوسائل التي عانى منها المسلمون آثاره المدمرة.

            6- ازدواجية التعليم:

            تم تقسيم التعليم، في كثير من البلدان الإسلامية، إلى تعليم ديني وآخر عصري ومدني، وكان ذلك بهدف إيجاد فئتين من المثقفين تختلف وجهات نظرهما في مفاهيم الدين وشؤون الحياة؛ لتكون المحصلة النهائية من هذا التعليم تخريج عقليتين مختلفتين في المرجعية وطرق التفكير لتتصارعا وتنفق طاقتيهما "في مقاومة بعضهما البعض في الداخل، بدل أن يوجهوها لبناء الأمة ودحر الأعداء" [15] . [ ص: 210 ]

            7- ضعف التحصيل في العلوم الشرعية:

            لما تخلى الغرب عن التعليم الديني المسيحي وقلل من شأنه تأثر بعض المسلمين بهذا الأمر، فقامت سياسات التعليم في بعض بلدان المسلمين على تهميش التعليم الديني إما بحذفه كاملا من المنهج الدراسي، أو بإبقائه محرفا ومشوها، أو بتقليل الساعات والحصص، التي تعطى للعلوم الشرعية، أو جعل الحصص الدينية في أوقات الفتور والخمول وهو آخر الدوام، وقد نتج عن هذه السياسة التعليمية كثير من الآثار السالبة، منها: [16]

            أ- نقص العلماء الشرعيين.

            ب- ضعف العلماء الموجودين لضعف المناهج، التي درسوا عليها.

            ج- ضعف الحصيلة العلمية لجميع الناس.

            وهكذا أدى التفاعل الحضاري في المجال العلمي، إلى هذه الآثار السلبية، مما يتطلب أن تتكاتف المؤسسات التعليمية والتربوية في العالم الإسلامي لمواجهة ذلك الخطر الموجه نحو التربية والتعليم. [ ص: 211 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية