الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        المطلب الخامس

        استبدال المساجد

        إذا تعطل المسجد بأن خرب ولم يكن له من يعمره، أو خربت محلته، أو انتقل أهل البلد عنه حتى صار في موضع لا يصلى فيه، فهل يملك الناظر عليه استبداله في مكان آخر، أو لا يملكه؟ .

        اختلف الفقهاء في ذلك على أقوال:

        القول الأول : يجوز نقل المسجد لمصلحة، وإن كان قائم المنفعة، كأن يضيق المسجد على أهله المصلين، ويتعذر توسيعه في محله، ونحو ذلك.

        وهو رواية عن الإمام أحمد ، واختاره شيخ الإسلام.

        قال شيخ الإسلام: "الإبدال لمصلحة راجحة مثل أن يبدل بخير منه ، ومثل المسجد إذا بني بدله مسجد آخر أصلح لأهل البلد منه، وبيع الأول، فهذا ونحوه جائز عند أحمد وغيره من العلماء".

        القول الثاني: أن الناظر لا يملك بيع المساجد واستبدالها، إلا إذا تعطلت .

        وبه قال بعض الشافعية ، وهو مذهب الحنابلة. [ ص: 44 ]

        جاء في كشاف القناع: "(ولا يصح بيعه ولا هبته ولا المناقلة به) أي :

        إبداله ولو بخير منه (نصا) ; للحديث السابق، وقد صنف الشيخ يوسف المرداوي كتابا لطيفا في رد المناقلة وأجاد وأفاد (إلا أن تتعطل منافعه) أي : الوقف (المقصودة منه بخراب) له أو لمحلته (أو غيره) ..... (ولو كان الخارب الذي تعطلت منفعته، وتعذرت إعادته (مسجدا حتى بضيقه على أهله) المصلين به (وتعذر توسيعه) في محله (أو) كان مسجدا وتعذر الانتفاع به لـ (خراب محلته) أي: الناحية التي بها المسجد (أو كان موضعه) أي: المسجد قذرا فيصح بيعه) ويصرف ثمنه في مثله للنهي عن إضاعة المال، وفي إبقائه إذا إضاعة، فوجب الحفظ بالبيع".

        القول الثالث: أن الناظر لا يملك بيع المساجد، واستبدالها ولو تعطلت.

        وبهذا قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وهو المفتى به عندهم ، والمالكية، وجمهور الشافعية ، وهو رواية عن الإمام أحمد، وأخذ بها بعض أصحابه. [ ص: 45 ]

        جاء في البحر الرائق: "حكم المسجد بعد خرابه، وقد اختلف فيه الشيخان : فقال محمد: إذا خرب وليس له ما يعمر به وقد استغنى الناس عنه لبناء مسجد آخر أو لخراب القرية، أو لم يخرب لكن خربت القرية بنقل أهلها واستغنوا عنه فإنه يعود إلى ملك الواقف أو ورثته، وقال أبو يوسف: هو مسجد أبدا إلى قيام الساعة لا يعود ميراثا، ولا يجوز نقله ونقل ما له إلى مسجد آخر سواء كانوا يصلون فيه أو لا، وهو الفتوى، كذا في الحاوي القدسي، وفي المجتبى : وأكثر المشايخ على قول أبي يوسف، ورجح في فتح القدير قول أبي يوسف بأنه الأوجه قال: وأما الحصر والقناديل، فالصحيح من مذهب أبي يوسف: أنه لا يعود إلى ملك متخذه ، بل يحول إلى مسجد آخر أو يبيعه قيم المسجد للمسجد".

        وجاء في حاشية رد المحتار : "المسجد قبل خرابه كالحر ليس بمال من كل وجه، بخلافه بعد خرابه لجواز بيعه إذا خرب في أحد القولين، فصار مجتهدا فيه كالمدبر فيصح بيع ما ضم إليه، ومثله سائر الأوقاف ولو عامرة ، فإنه يجوز بيعها عند الحنابلة ليشترى بثمنها ما هو خير منها كما في المعراج".

        وجاء في شرح ميارة: "لا يجوز بيع مواضع المساجد الخربة; لأنها وقف ولا بأس ببيع نقضها إذا خيف عليه الفساد للضرورة إلى ذلك، وأفتى ابن عرفة في جوامع خربت وأيس من عمارتها بدفع أنقاضها إلى مساجد عامرة احتاجت إليها".

        وجاء في المجموع: "وإن وقف مسجدا فخرب المكان، وانقطعت [ ص: 46 ] الصلاة فيه لم يعد إلى الملك، ولم يجز له التصرف فيه; لأن ما زال الملك فيه لحق الله تعالى لا يعود إلى الملك بالاختلال، كما لو أعتق عبدا ثم زمن، وإن وقف نخلة فجفت، أو بهيمة فزمنت، أو جذوعا على مسجد فتكسرت، ففيه وجهان أحدهما لا يجوز بيعه لما ذكرناه في المسجد (والثاني) يجوز بيعه ; لأنه لا يرجى منفعته، فكان بيعه أولى من تركه بخلاف المسجد، فإن المسجد يمكن الصلاة فيه مع خرابه، وقد يعمر الموضع فيصلى فيه".

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (يجوز الاستبدال عند المصلحة) :

        استدل أصحاب هذا القول بما سبق من عموم الأدلة الدالة على جواز نقل الوقف عند رجحان مصلحة استبداله .

        أدلة القول الثاني: (يجوز عند تعطل المنفعة) :

        استدل أصحاب هذا القول بما سبق من عموم الأدلة الدالة على جواز نقل الوقف عند تعطل منافعه.

        أدلة القول الثالث: (يجوز مطلقا) :

        استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

        1- ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "تصدق بأصله لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث".

        وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الوقف لا يستبدل ببيعه، وهذا عام في جميع أنواع الوقف، ومنها المساجد، وفي جميع الأحوال.

        ونوقش: بما سبق في مسألة استبدال الوقف منقطع المنفعة . [ ص: 47 ]

        2- أن الإجماع قد انعقد على عدم خروج الكعبة المشرفة عن المسجد والقربة ، فكذلك غيرها من المساجد يأخذ حكمها، فلا يجوز استبداله.

        ونوقش: بأن قياس المساجد على الكعبة المشرفة قياس مع الفارق ; لأن القربة التي عينت لها هي الطواف، ولم ينقطع ذلك زمن الفترة، وليس ذلك موجودا في سائر المساجد.

        كما أن الكعبة قبلة المسلمين وأفضل بقعة على وجه الأرض أمر الله سبحانه وتعالى بالتوجه إليها في الصلوات، فلا يقاس عليها غيرها من المساجد.

        3- أنه بعد تحقق سبب سقوط الملك فيه لا يعود، كالمعتق، لا يعود إذا زال إلى مالك من أهل الدنيا إلا بسبب يوجب تجدد ذلك، فما لم يتحقق لم يعد.

        ونوقش : بأن قياس الوقف على المعتق تقدم مناقشته قريبا .

        الترجيح :

        الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول القائل بملكية الناظر لبيع المساجد واستبدالها عند المصلحة ; لما تقدم من ترجيح إبدال الوقف العقار عند المصلحة . [ ص: 48 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية