الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 83 ]

        المسألة الثالثة: حكم انتزاع ملكية الوقف للمصلحة العامة عند الفقهاء:

        هذه المسألة يذكرها الفقهاء عند حديثهم عن بيع الوقف واستبداله ، وأحيانا في الحديث عن البيع الجبري، وأيا كان موضع ذكر هذه المسألة، فإن الملاحظ هنا هو عدم التفصيل فيها، بل يقتصر الأكثر منهم على مجرد المثال خاصة المتقدمين منهم، فتارة يذكرونها في مسألة توسعة الطريق، وأخرى في توسعة المسجد، وهكذا.

        وحاصل ما تبين لي من كلام الفقهاء في هذه المسألة :

        أن الأصل عدم جواز انتزاع ملكية الوقف إلا في حالات معينة تقدم بيانها في مسألة بيع الوقف واستبداله .

        قال ابن عابدين رحمه الله : "ولو ضاق المسجد وبجنبه أرض وقف عليه ، أو حانوت جاز أن يؤخذ ويدخل فيه".

        زاد في البحر عن الخانية بأمر القاضي.

        وتقييده بقوله: "وقف عليه" أي : على المسجد يفيد أنها لو كانت وقفا على غيره لم يجز، لكن جواز أخذ المملوكة كرها يفيد الجواز بالأولى; لأن المسجد لله تعالى، والوقف كذلك، ولذا ترك المصنف في شرحه القيد، وكذا في جامع الفصولين، تأمل.

        وقال الخرشي : عند قول خليل في مختصره: "إلا التوسيع كمسجد ولو جبرا " : "تقدم أن الحبس لا يجوز بيعه ولو صار خرابا إلا العقار وفي هذه المسألة، وهي ما إذا ضاق المسجد بأهله واحتاج إلى توسعة وبجانبه عقار حبس أو ملك; فإنه يجوز بيع الحبس لأجل توسعة المسجد، وإن أبي [ ص: 84 ] . صاحب الحبس أو صاحب الملك عن بيع ذلك، فالمشهور: أنهم يجبرون على بيع ذلك، ويشترى بثمن الحبس ما يجعل حبسا كالأول".

        وقال النفراوي في الفواكه الدواني: "وكذا يجوز بيع الوقف لتوسعة مسجد، قال خليل: إلا لتوسيع كمسجد، ويجبر، ويشترى بثمنه ما يجعل حبسا كالأول، ومثل توسعة المسجد توسعة طريق المسلمين ومقبرتهم; لأن نفع المسجد والمقبرة والطريق أكثر من نفع الوقف، فهو قريب لغرض الواقف، وأيضا يستبدل بالثمن خلافه، فإن امتنع البائعون من جعل الثمن في مثله لا يقضى عليهم بذلك على المتعمد، واختلال أمر الوقف يحل بيعه، وهذا غير مناف لجبرهم على البيع، كما قاله مالك رضي الله عنه في الدور التي كانت حول مسجده صلى الله عليه وسلم وهي محبسة فإنها اشتريت وزيدت فيه ... " .

        وقال المرداوي رحمه الله : "ونقل صالح: يجوز نقل المسجد لمصلحة الناس وهو من المفردات، وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله : يجب بيعه بمثله مع الحاجة وبلا حاجة يجوز بخير منه لظهور المصلحة، ولا يجوز بمثله; لفوات التعيين بلا حاجة، قال في الفائق : وبيعه حالة تعطله أمر جائز عند البعض، وظاهر كلامه في المغني وجوبه، وكذلك إطلاق كلام الإمام أحمد رحمه الله وذكره في التلخيص رعاية للأصلح... وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله : جوز جمهور العلماء تغيير صورته لمصلحة كجعل الدور حوانيت، والحكورة المشهورة، فلا فرق بين بناء وعرصة، هذا صريح لفضله ...".

        ونقل كلام الفقهاء رحمهم الله في هذا يطول، ولعل فيما سبق كفاية لمن أراد البيان. [ ص: 85 ] أدلة جواز انتزاع الوقف للمصلحة العامة:

        أولا : جميع الأدلة التي ذكرت على جواز نقل الوقف سواء إذا تعطلت منافعه، أو للمصلحة الراجحة تدل على ذلك.

        ثانيا : ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم لما ضاق المسجد الحرام أخذوا أرضه بكره من أصحابها بالقيمة، وزادوا في المسجد الحرام.

        وقال مالك رحمه الله في الدور التي كانت حول مسجده صلى الله عليه وسلم وهي محبسة فإنها اشتريت وزيدت فيه".

        ثالثا : ولأن نفع المسجد والمقبرة والطريق أكثر من نفع الوقف، فهو نفع عام، ومصلحة عامة، والمصلحة العامة مقدمة على الخاصة من جانب، ولأن الواقف قصده من وقفه النفع، وما فيه نفع عام يكون قريبا لغرض الواقف فلا وجه في منعه.

        رابعا : أن الضرر العام مقدم على الضرر الخاص، وانتزاع ملكية الوقف للمصلحة ضرر خاص، وتحقيق المصلحة العامة كتوسعة طريق أو مسجد فيه زوال ضرر أعم، فيرتكب أدنى الضررين وهو الخاص بانتزاع الوقف، لدرء الأقوى من الضررين، وهو عدم تحقق المصلحة العامة، علما أنه يمكن تلافي الضرر الخاص هنا بنقل الوقف إلى مكان مماثل، كما فعل عمر رضي الله عنه في مسجد التمارين .

        خامسا : قاعدة : الضرورات تبيح المحظورات، فإذا اضطر لنزع الوقف لمصلحة عامة جاز. [ ص: 86 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية