الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الرابعة: سرقة وقف المسجد الذي قصد به حفظه وعمارته :

        إذا سرق سارق وقف المسجد الذي يقصد به حفظ المسجد وعمارته لا انتفاع الناس، وذلك نحو باب المسجد وجذعه وسواريه وسقوفه، ففي وجوب القطع بتلك السرقة خلاف بين العلماء على النحو الآتي:

        القول الأول : أنه يجب القطع في سرقة ما وقف على المسجد بقصد تحصينه وحفظه، وعمارته.

        وهذا هو قول جمهور العلماء: المالكية، والشافعية ، والحنابلة. [ ص: 252 ]

        قال الحطاب: "من أزال باب المسجد عن موضعه خفية على وجه السرقة فإنه يقطع، وسواء خرج بها من المسجد أم لا، وكذلك إذا أزال خشبة من سقفه عن موضعها خفية على وجه السرقة فإنه يقطع، سواء خرج بها من المسجد أم لا.

        وقال الشربيني: "المذهب الذي قطع به الجمهور قطع يد المسلم بسرقة باب مسجد وجذعه وتأزيره وسواريه وسقوفه".

        وقال المرداوي: "لو سرق رتاج الكعبة (وهو الباب الكبير) أو باب مسجد أو تأزيره: قطع، هذا المذهب".

        القول الثاني : أنه لا قطع بسرقة كل ما وقف على المساجد، ومنها ما أعد لحفظه وصيانته.

        وبه قال الحنفية، وهو وجه عند الشافعية ، وقال به بعض الحنابلة.

        قال النووي الشافعي بعد أن ذكر المذهب في ذلك قال : "ورأي الإمام وجه في الأبواب والسقوف; لأنها من أجزاء المسجد، والمسجد مشترك" . [ ص: 253 ]

        وقال المرداوي بعد أن ذكر المذهب: "وقيل : لا يقطع مسلم بسرقة باب المسجد".

        الأدلة :

        أدلة القول الأول: (وجوب القطع) :

        عموم قوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، ولحديث عائشة رضي الله عنها السابق، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا"، وذلك أن السارق سرق نصابا محرزا بحرز مثله لا شبهة له فيه ; لأن تلك الأشياء ليست معدة لانتفاع الناس، فاعتداؤه عليها يعتبر اعتداء على مال لا حق له فيه، فيلزمه القطع، كسرقة باب بيت الآدمي.

        دليل القول الثاني: (عدم وجوب القطع) :

        أن تلك الأشياء ينتفع بها الناس، فيكون للسارق فيها شبهة كالسرقة من بيت المال، فيدرأ الحد لتلك الشبهة.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين :

        الوجه الأول : عدم التسليم بأن باب المسجد ونحوه جعل لانتفاع الناس، بل لتحصين المسجد وعمارته ، فلا شبهة للسارق في سرقتها ، بخلاف حصر المسجد، فإنها إنما أعدت لانتفاع الناس بافتراشها والجلوس عليها ، وأما جعل سرقة باب المسجد كالسرقة من بيت المال فإنه ليس بدقيق، ألا ترى أن له حقا في بيت مال المسلمين وليس له ذلك في باب المسجد؟ . [ ص: 254 ]

        الوجه الثاني : القول بأن سرقة باب المسجد ونحوه ليس من باب درء الشبهة كما سبق .

        الترجيح :

        الراجح - والله أعلم - هو القول الأول القائل بوجوب القطع بسرقة باب المسجد ونحوه مما قصد به تحصينه وحفظه وعمارته; لأن السارق لا حق له في تلك الأشياء، ولا يجوز له أن ينتفع بها بأي وجه من الوجوه، ولذلك قال ابن عابدين في التفريق بين أوقاف المسجد وبين الأوقاف العامة حين ذكر عدم القطع بهذه الأشياء قال: "وأما وقف المسجد فالظاهر أنه ليس كذلك ; لأنه ليس لأحد تناول شيء من غلته ; لأنها تصرف في منافع المسجد".

        كما أن الأصل القطع في كل سرقة ما لم يوجد مانع، ولا مانع فيما يظهر من القطع بتلك السرقة، والله أعلم.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية