الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثاني

        حكم اشتراط الواقف استبدال الوقف

        إذا اشترط الواقف أن له أو لغيره حق استبدال الوقف، فاختلف الفقهاء في صحة الوقف والشرط على ثلاثة أقوال:

        القول الأول : أنه يصح الوقف والشرط معا.

        وهذا هو القول الصحيح عند الحنفية، وبه قال المالكية، وبه قال بعض الشافعية ، وبعض الحنابلة إذا كان الشرط عند الخراب.

        القول الثاني : أن الوقف صحيح، ولا أثر لذلك الشرط. [ ص: 10 ]

        وبهذا قال بعض الحنفية، وبعض الحنابلة.

        القول الثالث: أنه يبطل الوقف والشرط معا.

        وبهذا قال بعض الحنفية ، وجمهور الشافعية ، وبعض الحنابلة.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

        1- الأدلة الدالة على صحة الشروط في عقد الوقف، كقوله تعالي : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، والأمر بإيفاء العقد يتضمن إيفاء أصله ووصفه، ومن وصفه الشرط فيه.

        ولما سبق من الأدلة الدالة على صحة الشرط في عقد الوقف.

        2- أن هذا شرط لا يبطل حكم الوقف ; لأن الوقف مما يحتمل الانتقال من أرض إلى أرض أخرى في حالة الخراب .

        ونوقش: بأنه دليل على صحة الوقف، ولا إشكال في ذلك، لكنه لا يستقيم دليلا على صحة الشرط; لأنه لا ينبغي الحكم على كل شرط لا يبطل حكم الوقف بالصحة فقد يوجد مانع آخر من صحته ، وهو هنا انعدام بعض الشرط حيث وجد المشروط مع انعدام الشرط في الوقف. [ ص: 11 ]

        3- أن إلغاء الشرط إبطال للعمل بموجبه، والبيع عند الخراب ثابت، والثابت اشتراطه تأكيد له.

        ونوقش: بأنه لا شك أن إلغاء الشرط إبطال للعمل بموجبه ، لكنه لم يقم الشرط أصلا في هذه المسألة حتى يكون له موجب; لأن الموجب ثابت بدون ذلك الشرط، فلا حاجة إليه، ولا أثر له، ولا يصح تسمية الثابت مشروطا ; لأن الشرط في الاصطلاح: هو ما يوجد المشروط مع عدمه، ولا يلزم أن يوجد عند وجوده.

        وبيع الخراب موجود مع عدم الشرط كما سيأتي، فلو حكم بأن اشتراط الثابت يسمى شرطا للزم انعدام هذا الثابت مع عدم الشرط، وليس الأمر هنا كذلك، فإن هذا الثابت ثابت ولو لم يوجد الشرط، فإذا كان كذلك تبين أنه لا أثر للشرط في هذه الحالة; لأن الاستبدال ضرورة منفعة للموقوف عليهم.

        أدلة القول الثاني: (بطلان الشرط) : استدل أصحاب هذا القول بالأدلة الآتية :

        1- حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مئة شرط، وقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق.

        وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أبطل في هذا الحديث الشرط، ولم [ ص: 12 ] يبطل العقد وذلك في البيع فيقاس عليه اشتراط استبدال الوقف، فيبطل الشرط ويصح الوقف.

        ونوقش: بأن مقتضى هذا الدليل قياس الشرط في الوقف على الشرط في البيع، وهو قياس مع الفارق ; لأن البيع عقد معاوضة والوقف عقد تبرع، ولا يصح قياس عقد التبرع على عقد المعاوضة.

        2- أن استبدال الوقف في حالة خرابه ضرورة ومنفعة للموقوف عليهم، ليبقى الوقف صدقة جارية، فلا أثر لاشتراط أمر ثابت ومقرر.

        3- أن اشتراط الاستبدال لا يؤثر في المنع من زوال الوقف; لأنه نقل وتحويل، والوقف يتم بذلك ولا ينعدم به معنى التأبيد في أصل الوقف، فيتم الوقف بشروطه، ويبقى الاستبدال شرطا فاسدا.

        دليل القول الثالث: (بطلان الوقف، والشرط) :

        استدل لهذا القول : بالأدلة الدالة على عدم جواز استبدال الوقف.

        وجه الدلالة : دلت هذه الأدلة على عدم جواز استبدال الوقف، وشرط الاستبدال فرع عن الاستبدال، وإذا لم يجز الأصل لم يجز الفرع.

        ونوقش : بعدم تسليم الأصل، فيجوز استبدال الوقف عند الحاجة، والمصلحة كما سيأتي تقريره.

        الترجيح :

        الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول القائل بصحة الوقف والشرط; لقوة ما استدلوا به، ولما سبق من أنه [ ص: 13 ] يصح شرط الرجوع في الوقف، فهنا من باب أولى، ولأن الأصل صحة الشروط في البيع.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية