الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الفصل الرابع

        حكم الحاكم وأثره في لزوم الوقف

        جمهور الفقهاء على أن الوقف يلزم بمجرد صدوره من الواقف، وإن لم يحكم به الحاكم، فليس للواقف الرجوع عنه، أو التصرف فيه ببيع، أو هبة ونحو ذلك.

        وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يجوز الرجوع في الوقف من قبل الواقف أي وقت شاء، ويورث عنه إذا مات، فهو بمنزلة العارية، ما لم يوجد مانع من موانع الرجوع الآتي بيانها.

        وهي كما يلي:

        الأول: أن يحكم بالوقف حاكم، فإذا حكم به حاكم كان ذلك كافيا لمنع فسخ الوقف.

        وبهذا قال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن.

        وعلة ذلك عندهم: أن لزوم الوقف بالقول، أو ما يقوم مقامه مختلف فيه، وحكم الحاكم يرفع الخلاف .

        ولكنهم يشترطون في حكم الحاكم الذي يمنع الفسخ أن يكون الحكم واردا على لزوم الوقف لا على صحته، فإن ورد على لزوم الوقف منع به [ ص: 478 ] الفسخ، وذلك كما لو سلم الواقف الوقف إلى الناظر، ثم طالب بعد ذلك الواقف باسترجاعه فيأبى الناظر; لكونه يرى أن الوقف قد لزم، فيرفعان الأمر إلى القاضي، فيحكم القاضي بلزوم الوقف، فإن هذا الوقف لا يصح الرجوع عنه .

        وأما إذا كان الحكم واردا على صحة الوقف، كما لو ادعت عليه زوجته تعليق طلاقها على وقفه أرضه، فأنكر الزوج صحة الوقف ; لكونه علقه بشرط مثلا - وهو يرى أن تعليق الوقف بشرط يفسده - ، فرفعا أمرهما إلى قاض فحكم بصحة الوقف، فإن هذا لا يمنع الرجوع للواقف; لأن الحكم لم يرد في محل النزاع الذي هو اللزوم، وإنما ورد في محل آخر، وهو صحة الوقف المعلق على شرط.

        الثاني : إخراج الواقف الموقوف من يده إلى الحاكم أو الناظر، فأما إذا لم يخرجه فلا يمنع الفسخ.

        وبهذا المانع قال محمد بن الحسن.

        وعللوا لذلك : بقياسه على الهبة، فكما أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فإن الوقف لا يلزم إلا بالقبض بجامع أن كلا منهما هبة لا عوض فيها.

        وقد استدلوا لما ذهبوا إليه : بقصة عطية أبي بكر لعائشة رضي الله عنها .

        [ ص: 479 ] الثالث : أن يقسم الوقف قبل القبض إذا كان الوقف مشاعا بين واقفين، إلا إذا كان الوقف لا يقبل القسمة كالحمام والرحى، فإذا لم يقسم المشاع قبل الوقف فلا يلزم.

        وهذا الشرط تابع لاشتراط الإخراج السابق; لأنه من تمامه، وبه قال محمد بن الحسن .

        الرابع : التأبيد، وذلك بأن يوقفه على جهة قربة لا تنقطع، فإذا وقفه على جهة تنقطع لم يلزم الوقف، وصح الرجوع فيه.

        وإلى هذا الشرط ذهب أبو يوسف، ومحمد بن الحسن عليهم رحمة الله . لكن محمد بن الحسن يشترط أن يكون التأبيد لفظا في الوقف، وأما أبو يوسف فيشترط أن يكون التأبيد موجودا، سواء أكان ذلك لفظا أو معنى.

        الخامس : ألا يشترط الواقف لنفسه شيئا من منافع الوقف، فإن اشترط لنفسه شيئا من منافع الوقف لم يفت الفسخ.

        وإلى اشتراط هذا الشرط ذهب محمد بن الحسن من الحنفية.

        وخلاصة الأمر: أن القائلين بأن عقد الوقف لا يلزم بالقول اختلفوا فيما يمنع به الفسخ:

        - فذهب الحنابلة في الرواية القائلة بعدم منع الفسخ بالقول وما يدل عليه : إلى أن عقد الوقف يمنع فسخه بإخراج الواقف له من يده إلى يد الحاكم، أو الناظر.

        - وذهب أبو حنيفة ومحمد بن الحسن : إلى أنه يمنع الفسخ بحكم الحاكم بلزوم الوقف. [ ص: 480 ]

        - وذهب أبو يوسف: إلى أنه يلزم باشتراط التأبيد لفظا أو معنى.

        - وذهب محمد بن الحسن : إلى أنه إن لم يحكم به حاكم فإنه لا يمنع فسخه إلا بأربعة شروط:

        الأول: الإخراج من يد الواقف.

        الثاني : ألا يكون مشاعا.

        الثالث: أن يكون مؤبدا لفظا .

        الرابع : ألا يشترط الواقف لنفسه شيئا من منافع الوقف .

        فإن اختل واحد من تلك الشروط لم يمنع فسخه .

        وقد سبق بيان ذلك وتحريره في مباحث حكم الوقف، ولزومه والرجوع فيه .

        فرع: الثبوت المحض عند الحاكم دون أن يحكم به :

        صورة الثبوت : قول الحاكم : ثبت عندي هذا البيع أو الوقف أو الإقرار على نحو ما وصف، أو ثبت عندي القصاص على القاتل، ونحو ذلك، فهل يكون ذلك حكما ملزما وحجة كالحكم؟

        اختلف العلماء في ذلك على ستة أقوال:

        القول الأول : أن الثبوت ليس حكما، بل خبر بالثبوت.

        وهذا قول للحنفية، وقول للمالكية، وقول للشافعية صححه الماوردي ، وهو مذهب الحنابلة. [ ص: 481 ]

        وعلل الشافعية والحنابلة ذلك : بأن الحكم أمر ونهي يتضمن إلزاما ، ولا إلزام في الثبوت.

        القول الثاني : أن الثبوت حكم.

        وهذا قول جمهور الحنفية، وهو المفتى به عندهم، والقول المشهور للمالكية، وقول الشافعية.

        وحجته : بأنه إخبار عن تحقق الشيء جزما .

        القول الثالث: أن الثبوت لا يكون حكما، إلا أن يقول الحاكم: إذا أطلقت لفظ الثبوت فإنما أعني به الحكم بالحق الذي يثبت عندي.

        وبه قال بعض الشافعية.

        وعللوا : بأن هذا اللفظ متردد بين أمرين: الحكم، وعدمه ، فإذا صرح القاضي بكونه حكما كان كذلك .

        القول الرابع: يكون الثبوت حكما إذا وقع على المسبب، ولا يكون حكما إذا وقع على السبب.

        فمثلا : إذا قال القاضي: ثبت عندي ملكه كذا، فهو حكم، وإذا قال:

        "ثبت عندي جريان العقد من المتعاقدين" فليس حكما .

        وبذلك قال بعض الحنفية. [ ص: 482 ]

        ولم أقف على ما عللوا به .

        القول الخامس : أن القاضي إذا قاله بعد تقدم دعوى صحيحة فهو حكم، وإذا لم تسبقه دعوى صحيحة فليس حكما.

        وهذا قول لابن نجيم الحنفي جمع بين القولين الأول والثاني .

        ولم أقف على ما عللوا به.

        القول السادس : أن الثبوت إذا وقع بعد حصول البينة والتزكية والإعذار وغيرها مما يلزم للحكم فهو حكم، وإلا فلا .

        وبذلك قال بعض المالكية.

        ولم أقف على ما عللوا به.

        الترجيح :

        الراجح - والله أعلم - أن الثبوت إذا كان بعد دعوى صحيحة استكملت فيه ما يلزم لها وصرح القاضي فيها بأنه حكم وإلزام، فهذا حكم; لأنه قد استكمل شرطه، وأما مجرد الثبوت فليس حكما ولو سبقه دعوى; إذ لم يتحقق شروط الحكم من الإلزام بما ثبت .

        وأما الثبوت الذي يجري به العمل الآن من إثبات ملكية عقار أو وقف دون منازع، وكذا حصر الورثة ونحوهما من الإثباتات التي لا منازعة فيها، فهذه أعمال ولائية، وليست أحكاما بذلك ; لعدم استكمال شروط الحكم، ومنها تقدم دعوى منازعة . [ ص: 483 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية