الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة السادسة: تكييف عقد الحكر:

        وفيها أمران: الأمر الأول: تكييف عقد الحكر المقيدة بمدة :

        الظاهر بعد التأمل أنه عقد إجارة، حيث يملك المستحكر المنفعة بموجب العقد طوال المدة المتفق عليها، وإذا انتهت المدة انفسخ العقد، وعادت المنفعة إلى المحكر، هذا هو الأصل.

        وذكر الفقهاء أن بناء المستحكر إذا كان قائما بعد انتهاء المدة، فليس للمحكر إخراجه إذا رضي بدفع أجرة المثل.

        قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن احتكر أرضا بنى فيها مسجدا أو غير [ ص: 110 ] مسجد، وأخذوا أرضهم فانتفعوا بها: "وما دام البناء قائما فيها فعليه أجرة المثل"، قال المرداوي: "وهو الصواب، ولا يسع الناس إلا ذلك".

        وقال الشيخ عبد الله أبا بطين: "وإذا بقي الغراس أو البناء بأجرة، لم يشترط تقدير المدة; لأنهم لم يذكروا ذلك وهو ظاهر، بل يشترط تقدير أجرة كل سنة" .

        وبناء على أن المستحكر يملك ما عمره، هل يجوز له أن يبيعه على غيره أثناء مدة العقد، كما لو استحكر خمسين عاما، وبعد انقضاء عشرين منها باع بناءه؟ هذه المسألة مبناها على مسألة بيع المستأجر للمنفعة التي يملكها على غيره.

        وجمهور أهل العلم على جواز ذلك.

        وإذا انتهت المدة فلا يحق للمستحكر أن يتصرف في الحكر; لأنه تصرف في شيء لا يملكه.

        ونقل العدوي: جريان العرف بمصر على أن الأحكار مستمرة للأبد، وإن عين فيها وقت الإجارة مدة، فهم لا يقصدون خصوص تلك المدة ، والعرف كالشرط، فمن احتكر أرضا مدة ومضت فله أن يبقى وليس لمتولي أمر الوقف إخراجه [ ص: 111 ]

        الأمر الثاني: تكييف عقد الحكر المطلق :

        وتحتها فرعان :

        الفرع الأول: أن يدفع المستحكر مبلغا معجلا كبيرا، وآخر مرتبا ضئيلا مقابل الاستفادة من أرض الوقف المتعطلة.

        وهذا عقد إجارة; لأن المدة منوطة ببقاء البناء.

        الفرع الثاني : أن يبيع المستحكر البناء على غير المحكر: وفي هذه الحالة يدفع العاقد للمستحكر مبلغا ليتملك البناء، ويلتزم بدفع الأجرة المفروضة للمحكر، وهذا عقد بيع بين المستحكر والمشتري، وعقد إجارة بين المشتري والمحكر; لأن المشتري يدفع أجرة لقيام بنائه على أرض الوقف، وهذا تملك لمنفعة أرض الوقف يجب دفع عوضها .

        أما المدة في عقد الحكر فهي منوطة ببقاء البناء ، والجهالة مغتفرة لحاجة الوقف إلى أن يؤجر ليستفيد منه المستحقون.

        وفي فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم: "والذي يظهر جواز بيع العقار الذي فيه حكر"، وهو بمعنى الصبرة عند أهل نجد، وقد أجاز العلماء بيع مثل هذه العقارات، قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في "الاختيارات" كلاما معناه: "وإذا بيعت الأرض المحكرة أو ورثت، فإن الحكر يكون على المشتري والوارث، وليس لأصحاب الحكر أخذ الحكر من البائع وتركة الميت في أظهر قولي العلماء".ا هـ.

        وقال ابن القيم في "الهدي" أثناء الكلام على الأرض المغنومة : "فعلم أن الأرض لا تدخل في الغنائم، والإمام مخير فيها بحسب المصلحة، وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك، وعمر لم يقسم بل [ ص: 112 ] أقرها على حالها وضرب عليها خراجا مستمرا في رقبتها يكون للمقاتلة، فهذا معنى وقفها، ليس معناه الوقف الذي يمنع من نقل الملك في الرقبة، بل يجوز بيع هذه الأرض كما هو عمل الأمة، وقد أجمعوا على أنها تورث، والوقف لا يورث، ولا يجوز مهرا في النكاح، وإنما امتنع بيعه ونقل الملك في رقبته لما في ذلك من إبطال حق البطون الموقوف عليهم من منفعته ، والمقاتلة حقهم في خراج الأرض، فمن اشتراها صارت عنده خراجية كما كانت عند البائع سواء، فلا يبطل حق أحد من المسلمين بهذا البيع، كما لم يبطل بالميراث والهبة والصداق. ا.هـ.

        وقال في "مختصر مجموع المنقور": قال ابن ذهلان: بيع الأراضي التي فيها صبرة معلومة صحيح لا بطلان فيه ، ولا فرق في ذلك عن الخراج على القول بصحة بيع الخراجية، فبيع النخل إذا كان فيه صبرة صحيح على ما اعتاده كثير من أهل الوشم وغيرهم يوصي أحدهم في عقاره بمثل هذه، ويصير الموصى به في العقار مقدما في الغلة على المشتري، وبذلك يعمل فقهاؤهم منهم الشيخ محمد. اهـ.

        ومما ذكرناه من كلام الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن ذهلان: يتضح جواز بيع الدار التي فيها الحكر، وأنها أملاك لمن اشتروها أرضها وأنقاضها، ولهم التصرف فيها بالبيع والهبة والوقف والسكن والإسكان والتحكير وغير ذلك، إلا أن الحكر السابق المشروط مقدم فيها حسب شرط البائع الأول - كما يظهر أيضا أنه يجوز أن يشتري بقيمة الوقف الذي ببيع للمسوغ الشرعي - سواء كان ذلك الوقف المذكور فيه الحكر سابقا على الوقفية أم لا - دارا من تلك الدور التي فيها تلك الحكور تكون وقفا بدلا من الوقف المبيع الأول; لما تقدم من كون أرض الدار المحكرة ملكا لا وقفا ، حينئذ تكون تلك الدار المشتراة وقفا، ويتصور فيها وجود حكرين اثنين : أحدهما: الحكر السابق يتعين تقديمه على غيره، والثاني : الحكر الذي هو في الوقف المنقول يكون مؤخرا عن هذا الحكر، وما فضل عن [ ص: 113 ] الحكرين هو غلة الوقف المنقول.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية