الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الفصل الخامس

        إثبات الوقف بالكتابة

        وفيه مبحثان : [ ص: 484 ]

        [ ص: 485 ] المبحث الأول

        ثبوت الوقف بالكتابة

        تقدم أن الوقف ينعقد بالكتابة بالاتفاق، وتقدم دليل ذلك.

        واختلف في الاكتفاء بمجرد الكتابة في إثبات الوقف أو لا بد من الشهادة على أقوال .

        القول الأول: الاكتفاء بها إذا عرف الخط، سواء أشهد أم لا.

        وهو قول أبي عبيد، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو المذهب عند الحنابلة.

        قال أحمد: "من مات ووجدت وصيته مكتوبة عند رأسه ولم يشهد عليها وعرف خطه، وكان مشهور الخط، يقبل ما فيها".

        قال ابن القيم: "وقول الإمام أحمد: إن كان قد عرف خطه وكان مشهور الخط ينفذ ما فيها يرد ما قاله القاضي، فإن أحمد علق الحكم بالمعرفة والشهرة من غير اعتبار لمعاينة الفعل، وهذا هو الصحيح فإن القصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف ذلك وتيقن كان كالعلم بنسبة اللفظ إليه، فإن الخط دال على اللفظ، واللفظ دال على القصد والإرادة، وغاية [ ص: 486 ] ما يقدر اشتباه الخطوط، وذلك كما يعرض من اشتباه الصور والأصوات، وقد جعل الله سبحانه لخط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره كتميز صورته وصوته عن صورته وصوته، والناس يشهدون شهادة لا يستريبون فيها أن هذا خط فلان، وإن جازت محاكاته ومشابهته فلا بد من فرق، وهذا أمر يختص بالخط العربي، ووقوع الاشتباه والمحاكاة لو كان مانعا لمنع من الشهادة على الخط عند معاينته إذا غاب عنه لجواز المحاكاة".

        القول الثاني : أنه لا يعمل بالخط حتى يشهد عليه .

        وهو قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، وإحدى الروايتين عن أحمد .

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        1- قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وجه الدلالة : دلت الآية على أن الكتابة وثيقة في المعاملات، وفائدة ذلك الاحتجاج بها، والاعتماد عليها عند الإنكار والجحود .

        2- حديث ابن عمر ، رضي الله عنهما وقوله فيه : "ووصيته مكتوبة عنده".

        [ ص: 487 ] ونوقش هذا الاستدلال: بأن المراد بالكتابة الشهادة، وبأن فيه إضمارا، والتقدير : ووصيته مكتوبة مشهود عليها.

        وأجيب : بأن تأويل الكتابة في حديث ابن عمر بالشهادة، أو دعوى إضمار الشهادة فيها خلاف الأصل; لأن الأول مجاز بلا قرينة، والثاني إضمار بلا دليل، وكلاهما خلاف الأصل لا يصح حمل الحديث عليهما، أخذا بقاعدة: الحقيقة مقدمة على المجاز; وقاعدة : الاستقلال مقدم على الإضمار .

        3- ما ورد من مكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم الملوك في دعوتهم إلى الإسلام، ومن ذلك:

        (306) ما رواه البخاري ومسلم من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره ... "ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتبع الهدى".

        ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم إشهاد .

        4 - الآثار الواردة عن الصحابة في اعتبار الكتابة في الوصية، كما سبق .

        5- أن الكتابة كالخطاب، بل أشد دلالة على جزم الإرادة ; لأن الإنسان [ ص: 488 ] قد يتلفظ سهوا وينطق خطأ، وقد يسبقه لسانه فيتكلم مزحا وهزلا بخلاف الكتابة ; فإن العقل متجه إليها، ويفكر في دلالتها ومعناها .

        أدلة القول الثاني: (الإشهاد) :

        1- قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم .

        ونوقش الاستدلال: بأن الآية مختلف فيها "قيل : والشهادة هنا بمعنى الوصية، وقيل : بمعنى الحضور للوصية .

        وقال ابن جرير الطبري: هي هنا بمعنى اليمين، فيكون المعنى : يمين ما بينكم أن يحلف اثنان، واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم لله حكما يجب فيه على الشاهد يمين.

        وضعف ذلك ابن عطية ، واختار أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود".

        2 - القياس على الشاهد والقاضي، فإن الشاهد إذا عرف خطه ولم يذكر شهادته لم يجز له أداؤها، ولا يعمل بها، والقاضي إذا عرف خطه ولم يتذكر حكمه لا يجوز له تنفيذه، فكذلك خط الواقف إذا عرف لم يجز الاعتماد عليه إلا بالإشهاد منه، أو بإقرار من ورثته; لاحتمال رجوعه، ولاحتمال التلبيس والتزوير في الخط.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه قياس على مختلف فيه

        3- ولأنه قد يكتبها غير عازم على تنفيذها . [ ص: 489 ]

        ونوقش هذا الاستدلال: باحتمال عدم العزم على الوقف عند الكتابة ، فهو خلاف الأصل.

        4- أن الخطوط تتشابه ويصعب تمييزها، فيحتمل التزوير والتدليس، وبتطرق الاحتمال إلى الدليل يسقط الاستدلال به .

        ونوقش هذا الاستدلال : باحتمال التدليس، بأنه خلاف الأصل، ولأنه يرجع إلى الشك في وجود المانع، وهو لا أثر له في الحكم .

        وفي مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم: "إذا كتب وصيته بقلمه وتحقق أنه قلمه كفى ولو لم يشهد، بل الخط أبلغ من الختم ; لأن الختم قد يزور عليه، وإن كان قد يوجد من يزور على الخط".

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - هو القول الأول; لقوة دليله، وما ورد على دليل القول الثاني من مناقشة، ولئلا تضيع الحقوق . [ ص: 490 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية