الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث السابع

        الجناية على الوقف، وجنايته

        وفيه مطالب:

        المطلب الأول

        الجناية على الوقف الموجبة للمال، ومصرفها

        إذا لم يجب القصاص، أو كانت الجناية خطأ من غير موقوف عليه وجبت قيمة العبد إذا كانت الجناية على النفس، وليس للموقوف عليه العفو مجانا .

        في كشاف القناع: "(فإن قطعت يده) أي: الموقوف (أو) قطع (بعض أطرافه عمدا فللقن) الموقوف (استيفاء القصاص; لأنه حقه) لا يشركه فيه أحد (وإن عفا) الرقيق الموقوف عن الجناية عليه (أو كان القطع) أو الجرح (لا يوجب القصاص) ; لعدم المكافأة أو لكونه خطأ أو جائفة ونحوه (وجب نصف قيمته) فيما إذا كان المقطوع يدا أو رجلا أو نحوهما مما فيه نصف الدية وإلا فبحسابه" . [ ص: 232 ]

        فعلى كل حال متى ما جني على الوقف جناية موجبة للمال وجبت; لأن ماليته لم تبطل ولو بطلت ماليته لم يبطل أرش الجناية عليه .

        فرع :

        مصرف أرش الجناية على الوقف.

        إذا وجب الأرش في الجناية على نفس العبد الموقوف أو طرف من أطرافه ، ففي مصرف ذلك الأرش خلاف بين العلماء على النحو الآتي:

        القول الأول : أن أرش الجناية يصرف وقفا في عبد أو بعض عبد.

        فيشترى بأرش الجناية عبد كامل يكون وقفا مكان المجني عليه إن أمكن، وإلا اشتري به شقص من عبد .

        وهو قول جمهور أهل العلم: الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة .

        القول الثاني: أن أرش الجناية تصرف للموقوف عليه.

        وقال به بعض الشافعية.

        وعلى هذا القول فلو كان القاتل هو الموقوف عليه فلا قيمة عليه.

        القول الثالث: أن الأرش إنما يصرف للموقوف عليه إذا كان عن جناية فيما دون النفس كالجرح، والجناية على الطرف.

        وهذا قول لبعض الشافعية، وقال به بعض الحنابلة. [ ص: 233 ]

        القول الرابع : أن أرش الجناية يصرف ملكا للواقف سواء كانت الجناية على نفس أو طرف.

        وهو قول لبعض الشافعية بناء على أن الوقف ملك لواقفه.

        وعلى هذا القول فلو كان القاتل هو الواقف فلا قيمة عليه .

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        استدل أصحاب هذا القول بعدة أدلة منها:

        1- مراعاة غرض الواقف من استمرار الثواب ; لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة : إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".

        2 - القياس على الجناية على المدبر، حيث يشترى بقيمته عبد يصير مدبرا، فكذا الوقف.

        3- تعلق حق البطن الثاني وما بعده في الوقف، فلا يختص به الموقوف عليه ، فلم يختص ببدله كالعبد المشترك والمرهون.

        دليل القول الثاني: (أرش الجناية تصرف للموقوف عليه) :

        أن الوقف ملك للموقوف عليه فيملك بدله ; لأن من ملك المبدل ملك البدل . [ ص: 234 ]

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه سبق في مبحث ملكية الوقف أن الراجح: أن العين الموقوفة بعد وقفها لا يكون لها مالك من الآدميين، ثم على افتراض ملكية الرقيق الموقوف فإنه ملك لا يختص به الموقوف عليه الحاضر; وذلك أنه يتعلق به حق البطن الثاني فلم يجز صرف قيمته إليه ، وإنما يستحق منفعته ، فعلى هذا يشترى بالقيمة عبد مثله تصرف منفعته إلى الموقوف عليه.

        دليل القول الثالث: (الأرش يصرف للموقوف إذا كان دون النفس) :

        أن في أرش الجنايات الواقعة دون النفس فوائد تتعلق بإفاتة، وتفويت، فضاهت المهر والاكتساب، فيجب صرفها إلى مالك المنفعة وهو الموقوف عليه.

        ونوقش : بأن أروش الجنايات الواقعة دون النفس ليست فوائد ولا تأخذ أحكام الفوائد; وذلك أنها ليست بدل منافع أو فوائد، وإنما هي بدل جزء من الوقف لا ينفصل عنه فتأخذ حكمه فهي بدل اليد المقطوعة أو العين المفقودة أو نحوها; لأن الفوائد هي الأشياء الزائدة الخارجة عن الذات، ولذلك قال صاحب المصباح : الفائدة : الزيادة تحصل للإنسان.

        فهي بخلاف المهر; لأن المهر بدل منفعة البضع لا بدل البضع ذاته بخلاف الاكتساب ; لأن الاكتساب فائدة منفعة العمل، أما بدل أروش الأطراف والجراحات، فهي بدل أجزاء الوقف فينقص الوقف بذهاب تلك الأجزاء، فكان من الواجب تتميم هذا النقص في وقف آخر. [ ص: 235 ]

        دليل القول الرابع: (أن أرش الجناية ملك للواقف) :

        أن الواقف هو الذي كان مورد الوقف، فترجع قيمته إليه عند نهاية الوقف .

        ونوقش: بأن هذا غير سديد; وذلك أن من أتلف عبدا مرهونا لزم جعل القيمة رهنا مكان العبد ولم نقل انتهى الرهن، فلأن يكون الوقف كذلك هاهنا من باب أولى، فإن تعلق حق الوقف لا ينقص عن تعلق حق المرتهن.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - القول الأول القائل بوجوب صرف أرشه في مثله ، وهو الموافق للنصوص; لأن في ذلك إدامة للوقف اللازم لاستمرار الثواب حتى تتحقق فيه صفة الصدقة الجارية التي فسرها الفقهاء بالوقف كما بيناه سابقا .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية