الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث الثالث

        تغيير الناظر للوقف عن هيئته

        مثاله: جعل الدار بستانا، أو العكس، أو جعل المدرسة مسجدا، أو العكس، فهل يملك ذلك، أو لا، وهل يشترط لذلك شروط، أو لا يشترط؟.

        لا يجوز تغيير الوقف عن هيئته التي وقف عليها إذا لم يكن فيه . أي : التغيير - مصلحة للوقف، أو للموقوف عليه ، كذلك لا يجوز تغييره لمصلحة الناظر.

        قال ابن مفلح: "إذا غيره لمصلحة نفسه ألزم بإعادته إلى مثل ما كان، وبضمان ما فوته من غير منفعة، وعلى ولاة الأمر إلزامه بما يجب عليه ، فإن أبي عوقب بحبس وضرب ونحوه، فإن المدين يعاقب بذلك، فكيف بمن امتنع من فعل واجب مع تقدم ظلم؟".

        أما إذا كان فيه مصلحة لذلك، ومن صوره ما ذكره الحطاب قال: "ومثله ما فعلته أنا في مدرسة الشيخ التي بالقنطرة غيرت بعض أماكنها مثل الميضأة ورددتها بيتا، ونقلتها إلى محل البئر لانقطاع الساقية التي كانت تأتيها" .

        فقد اختلف الفقهاء في حكمه، وذلك على ثلاثة أقوال :

        القول الأول : أن الناظر يملك تغيير هيئة الوقف إذا كان فيه مصلحة . [ ص: 67 ]

        وبهذا قال بعض الحنفية، والمالكية، وبه قال الحنابلة ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. قال شيخ الإسلام: "وجوز جمهور العلماء تغيير صورة الوقف للمصلحة جعل الدور حوانيت".

        وقال شيخ الإسلام: "وأما تغيير صورة البناء من غير عدوان فينظر في ذلك إلى المصلحة ، فإن كانت هذه الصورة أصلح للوقف وأهله أقرت، وإن كانت إعادتها إلى ما كانت عليه أصلح أعيدت، وإن كان بناء ذلك على صورة ثالثة أصلح للوقف بنيت فيتبع في صورة البناء مصلحة الوقف".

        جاء في الدر المختار : "أراد أهل المحلة نقض المسجد وبناءه أحكم من الأول: أن الباني من أهل المحلة لهم ذلك وإلا لا (وإذا جعل تحته سردابا لمصالحه) أي: المسجد (جاز) ".

        القول الثاني: أن الناظر لا يملك تغيير هيئة الوقف، إلا إذا شرط الواقف العمل بالمصلحة. [ ص: 68 ]

        وبهذا قال الشافعية.

        القول الثالث: أن الناظر لا يملك تغيير هيئة الوقف إلا بشرطين :

        1- أن يكون التغيير يسيرا بحيث لا يغير مسمى الوقف.

        2- ألا يزيل التغيير شيئا من عين الوقف، بل ينقل بعضه من جانب إلى جانب .

        وبهذا قال ابن الصلاح، والسبكي من الشافعية.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (يملك تغيير هيئة الوقف عند المصلحة) :

        استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

        1- ما روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم ...." الحديث.

        وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه لولا حداثة الناس بالشرط لغير هيئة الكعبة المشرفة بهدمها، وإدخال ما أخرج منها، وإلزاقها بالأرض، وجعل لها بابين; لأنه صلى الله عليه وسلم رأى أن في ذلك مصلحة له.

        2- ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حيث حول مسجد الكوفة القديم فجعله سوقا للتمارين، وبنى بدلا منه في مكان آخر. [ ص: 69 ]

        ونوقش: بأنه ضعيف لا يثبت .

        3- وأنه الذي يحقق المقصود من الوقف.

        4- واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية على أن للناظر أن يغير صورة الوقف إلى أصلح منها: بما اشتهر من تغيير الخلفاء الراشدين لصورة الحرمين الشريفين إلى أخرى أصلح منها.

        دليل القول الثاني: (لا يملك تغيير هيئة الوقف إلا بالشرط) :

        واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:

        أنه يجب المحافظة على عين الوقف ورقبته ; لأنها الأصل الذي نص الواقف على جنسه، وهي مادة الوقف وصورته المسماة من دار أو حمام أو نحوهما .

        ونوقش هذا الاستدلال: بما ذكر شيخ الإسلام من أن الاعتبار هو مقصد الواقف، وما هو أنفع لأهل الوقف، وليس هناك فائدة في الجمود على نص الواقف مع انتفاء المصلحة في ذلك ، بل يدار مع المصلحة حيث كانت .

        أدلة القول الثالث: (لا يملك تغيير هيئة الوقف إلا بشرطين) :

        أما أصحاب القول الثالث فاستدلوا على عدم جواز تغيير هيئة الوقف إذا اختل شرط من الشروط التي ذكروا: بما استدل به أصحاب القول الثاني، وقد سبقت مناقشته .

        كما يمكن الاستدلال لهم على اشتراط المصلحة في التغيير: بما استدل به أصحاب القول الأول. [ ص: 70 ]

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول; لقوة ما استدلوا به ، ولأنه الموافق لغرض الواقف ; لأن غرضه تكثير الريع لا المسمى، ولأنه قد سبق قريبا ترجيح جواز استبدال العين الموقوفة إذا كان هناك مصلحة راجحة ، فتجويز تغيير هيئتها فقط دون إبدالها أولى وأحرى.

        فرع:

        استبدال الوقف بتحويله من مباشر إلى مباشر واستثماري معا :

        وذلك : أن يتم تحويل المنشأة الوقفية من منشأة ينتفع منها الموقوف عليه بالاستغلال فحسب إلى منشأة يستغلها الموقوف عليه، مع اقتطاع جزء منها يخصص للاستثمار لصالح تلك الأغراض نفسها.

        فلو كان الواقف قد أقام مدرسة وقفية، ولا ينتفع بها إلا بشكل مباشر أثناء الدراسة فحسب، فيمكن تحويل هذا الوقف من وقف مباشر لا ينتفع به إلا من خلال مباشرة التعليم فيه إلى مباشر واستثماري يبقى انتفاع الدارسين منه كما هو، ويتم تأجير مقر المدرسة في خارج أوقات الدراسة مساء، أو أثناء إجازات المدرسة، ونحو ذلك.

        ومثل هذه الصورة بضوابطها تحقق ما أراده الواقف وزيادة، فهي لم تعطل الانتفاع من الموقوف مباشرة كما شرط الواقف، بل حققت ذلك مع ريع ينتفع منه في عين ما أراده الواقف.

        وعليه فيشرع الاستثمار بهذه الصيغة. [ ص: 71 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية