الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثاني

        الإجارتان

        وفيه مسألتان:

        المسألة الأولى: المراد بعقد الإجارتين:

        قيل : بأنها عقد إجارة مديدة بإذن القاضي على عقار الوقف المتوهن الذي يعجز الوقف عن إعادته إلى حالته السابقة بأجرة معجلة تقارب قيمته تؤخذ لتعميره، وأجرة مؤجلة ضئيلة سنوية يتجدد العقد عليه ودفعها كل سنة.

        وقيل : بأن يتفق متولي الوقف مع شخص على أن يدفع مبلغا من المال يكفي لعمارة العقار المبني المتوهن عند عجز الوقف عن التعمير، على أن يكون لدافع المال حق القرار الدائم في هذا العقار بأجر سنوي ضئيل، وهذا الحق يورث عن صاحبه ويباع.

        وهذا العقد من الصور التي أنشئت بعد عام 1020 هـ على إثر الحرائق [ ص: 119 ] التي شملت أكثر عقارات الأوقاف في القسطنطينية فعجزت غلاتها عن تجديدها، وتشوه منظر البلدة، فابتكروا طريقة الإجارتين تشجيعا على استئجار هذه العقارات لتعميرها.

        ولعل من أهم أسباب قيام هذه الصورة عدم وجود الرغبة ، كما سبق في استثمار العقار مما دعا إلى الحصول على دفعة مقدمة لعمارته ليكون مهيئا للانتفاع منه ، كما اشترط وجود أجرة مؤجلة ضئيلة للإعلام بأن العقار المؤجر لا يزال موقوفا، وهو كذلك لسد الطريق أمام المستأجر من ادعاء ملكيته المطلقة له مع مرور الزمن كما ذكروا.

        وبناء على ما سبق فهذا العقد من جهة نشأته وما اشترط فيه إنما أقيم عند القائلين به من أجل مصلحة الوقف لإقامته وعمارته أولا، ثم الحفاظ عليه من الاعتداء من خلال ادعاء ملكيته مع تقادم السنين، فيحصل بذلك الأحظ للوقف من خلال الأجرة المعجلة، وكذا يندفع به ما يظن من ضياع الوقف واندثاره.

        وعليه فهذا العقد إنما أنشئ للحاجة ويجب قصر إقامته عليها حال عدم وجود من يرغب في الوقف إلا من خلاله ; لأمور متعددة منها ما يأتي:

        أولا : إن مثل هذا العقد لا يحقق الغبطة للوقف; إذ كل ما يدفع مقدما يكون في عمارة العين الموقوفة دون إنشاء عين أخرى أو وجود مردود مجد من الأجرة السنوية التي قد تكون ضئيلة جدا .

        ثانيا : إن هذا العقد في حقيقته بيع للوقف واستبدال له بلا مقابل يكافئ قيمة العقار، حيث يتم أخذ أجرة معجلة تقارب قيمته ترد في إعمار العين [ ص: 120 ] المؤجرة، ولا يتبقى من ريع الوقف إلا أجرة ضئيلة جدا تم فرضها من أجل حماية صورة الوقف دون الحفاظ على حقيقته وثمرته، وهل أكثر دلالة على أن هذا العقد هو استبدال للوقف مما ذكر من أن للمستأجر حق التصرف في العقار المؤجر بالبيع والإجارة، وأن هذا الحق يورث كذلك.

        فالمستأجر يتصرف تصرف الملاك، وعليه فهو بيع واستبدال، ولا بد لإجازته من تحقق شروط الاستبدال وكونه أحظ للوقف.

        ولما كان الاستبدال هنا إلى غير بدل إلا أجرة ضئيلة كما سبق، فإن القول بالمنع منه هو الراجح.

        ثالثا : هذا العقد لا يحقق منفعة الوقف، وليس أحظ للموقوف عليهم ولا موافقا لمراد الواقف، بل هو يلحق الخطر بالوقف، وخطر ضياع الأوقاف لا يقل عن خطر خرابها .

        فكما تمنع إجارة من يخشى تغلبه على الوقف واستيلاؤه عليه، فمن باب أولى يمنع تسليمه إلى مستأجر يتصرف فيه تصرف الملاك.

        ولذا يجب معاملة هذه الصورة كحالة استبدال يشترط فيها ما يشترط في الاستبدال.

        ومما يحسن نقله هنا ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله من مفاسد كثيرة للإجارة الطويلة مطلقا ضمن فصل أفرده في إبطال حيلة لتأجير الوقف مدة طويلة حيث يقول رحمه الله : "ومن الحيل الباطلة : تحيلهم على إيجار الوقف مئة سنة مثلا، وقد شرط الواقف ألا يؤجر أكثر من سنتين أو ثلاثا، فيؤجر المدة الطويلة في عقود متفرقة في مجلس واحد، وهذه الحيلة باطلة قطعا، فإنه إنما قصد بذلك دفع المفاسد المترتبة على طول مدة الإجارة فإنها مفاسد كثيرة جدا، وكم قد ملك من الوقوف بهذه الطرق، وخرج عن الوقفية بطول المدة [ ص: 121 ] واستيلاء المستأجر فيها على الوقف هو وذريته وورثته سنين بعد سنين، وكم فات البطون اللواحق من منفعة الوقف بالإيجار الطويل، وكم أجر الوقف بدون إجارة مثله لطول المدة وقبض الأجرة وكم زادت أجرة الأرض أو العقار أضعاف ما كانت ولم يتمكن الموقوف عليه من استيفائها، وبالجملة فمفاسد هذه الإجارة تفوت العد، والواقف إنما قصد دفعها وخشي منها بالإجارة الطويلة، فصرح بأنه لا يؤجر أكثر من تلك المدة التي شرطها، فإيجاره أكثر منها سواء كان في عقد أو عقود مخالفة صريحة لشرطه مع ما فيها من المفسدة، بل المفاسد العظيمة.

        ويالله العجب هل تزول هذه المفاسد بتعدد العقود في مجلس واحد، وأي غرض للعاقل أن يمنع الإجارة لأكثر من تلك المدة ، ثم يجوزها في ساعة واحدة في عقود متفرقة، وإذا أجره في عقود متفرقة أكثر من ثلاث سنين أيصح أن يقال وفى بشرط الواقف، ولم يخالفه، هذا من أبطل الباطل وأقبح الحيل، وهو مخالف لشرط الواقف ومصلحة الموقوف عليه، وتعرض لإبطال هذه الصدقة، وأن لا يستمر نفعها وألا يصل إلى من بعد الطبقة الأولى وما قاربها ، فلا يحل لمفت أن يفتي بذلك ولا لحاكم أن يحكم به، ومتى حكم به نقض حكمه، اللهم إلا أن يكون فيه مصلحة الوقف بأن يخرب، ويتعطل نفعه ، فتدعو الحاجة إلى إيجاره مدة طويلة يعمر فيها بتلك الأجرة، فهنا يتعين مخالفة شرط الواقف تصحيحا لوقفه، واستمرارا لصدقته، وقد يكون هذا خيرا من بيعه والاستبدال به، وقد يكون البيع أو الاستبدال خيرا من الإجارة ، والله يعلم المفسد من المصلح".

        وقد نبه ابن حجر الهيتمي في كتابه : الإتحاف ببيان أحكام إجارة الأوقاف من الفتاوى الكبرى، إلى اشتراط المصلحة مع أجرة المثل في [ ص: 122 ] الإجارة الطويلة، وبين أن أجرة المثل لا تكفي لإجارة الوقف دون تحقق الغبطة والمصلحة، حتى ولو كان الإيجار بأكثر من أجرة المثل خشية لحوق ضرر بالوقف من خلال الاعتداء عليه أو غيره .

        قال ابن حجر : "الإيجار بأكثر من أجرة المثل وحده لا يكفي" ثم قال : وبذلك كله علم أن زعم الاكتفاء بالزيادة على أجرة المثل وحدها باطل صريح لا يلتفت إليه، ولا يعول عليه".

        كما قال : المراد بالمصلحة المجوزة لإجارة المدة الطويلة هي المصلحة التي ترجع إلى بقاء عين الوقف، وقد انحصرت في إيجاره تلك المدة لا إلى مجرد مصلحة المستحقين ".

        التالي السابق


        الخدمات العلمية