الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثاني

        القسم الثاني: المرض المخوف

        وفيه مسائل:

        المسألة الأولى: الوقف على الأجنبي، أو الوارث:

        يصح وقف المريض مرض الموت على الأجنبي - غير الوارث - بقدر الثلث فما دون بالاتفاق.

        فإن وقف أزيد من الثلث أو على وارث، فاختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حكم وقف المريض مرض الموت لوارث، أو بأزيد من الثلث.

        القول الأول : أن وقف المريض لغير وارث من الثلث فأقل. [ ص: 305 ]

        ذهب إليه جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية ، والحنابلة ، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .

        القول الثاني: لا يحجر عليه في شيء من ماله، فهو كالصحيح سواء.

        وهو قول طاوس، ومجاهد، وابن حزم، وداود الظاهري، إلا أنه استثنى العتق، فجعله من الثلث.

        الأدلة:

        أدلة الرأي الأول: (أن وقف المريض مرض الموت من الثلث لغير وارث) :

        (283) 1- ما رواه ابن ماجه : حدثنا علي بن محمد، حدثنا وكيع ، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : "إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم". [ ص: 306 ]

        وجه الاستشهاد: أنه صلى الله عليه وسلم أخبر ألا زيادة لهم على الثلث، فدل على الحجر على ما زاد عليه، ومنعهم من التصدق به . [ ص: 307 ]

        ونوقش من وجهين :

        الوجه الأول: الحديث ضعيف، وقد روي من طرق كلها ضعيفة .

        أجيب عليه : أنها وإن كانت ضعيفة، لكن قد يقوي بعضها بعضا.

        الوجه الثاني : على التسليم بصحة الحديث، فالحديث المراد به الوصية عند الموت، ونحن متفقون معكم على أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث، ويدل على ذلك أنه لم يأت في الحديث ذكر للمرض أصلا، فما الذي حملكم أن جعلتموه في المرض المخوف؟.

        وأجيب : بأنه قال "عند وفاتكم" ولم يقل بعد وفاتكم; مما يدل على أن التبرع المقيد بالثلث إنما كان حال الحياة.

        (284) 2- ما رواه البخاري ومسلم من طريق ابن شهاب، عن عامر بن سعد، عن أبيه رضي الله عنه قال : "عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت : يا رسول الله بلغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: لا، الثلث والثلث كثير".

        وجه الاستشهاد: أنه صلى الله عليه وسلم لم يأذن له في الصدقة بأكثر من الثلث، مما يدل على أنه ممنوع من التصرف في الباقي. [ ص: 308 ]

        ونوقش : أن الحديث في الوصية ، يدل على ذلك أمران:

        الأمر الأول : ما جاء في بعض روايات الحديث : "أريد أن أوصي، فقلت: أوصي بمالي كله" ونحن معكم في أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث، والقصة واحدة وهذه الروايات في الصحيحين وغيرهما، فدل على أنه أراد الوصية .

        الأمر الثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أن سعدا سيبرأ، وتكون له آثار في الإسلام، يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "ولعلك تخلف حتى ينفع الله بك أقواما ويضر بك آخرين" فالمرض ليس بمخوف، ومع هذا منعه الرسول صلى الله عليه وسلم من التصرف فيما زاد عن الثلث، فدل على أن المراد الوصية.

        وأجيب عن هذا من وجوه:

        الأول: أن الحديث بلفظ "أتصدق"، وهي أصح من رواية "أوصي" ; لاتفاق الشيخين على لفظ الصدقة .

        الثاني : أنه لا تنافي بين لفظ الصدقة والوصية، فسمى الصدقة في مرض الموت وصية; لأنها في حكم الوصية في الثلث لغير وارث، فيكون لفظ الوصية دليلا على أن تبرع المريض مرض الموت في حكم الوصية .

        الثالث : أن أثر المنع لا يظهر إلا إذا كان في الصدقة; لأنها هي التي [ ص: 309 ] تكون لازمة، والنبي صلى الله عليه وسلم رجا أن يبقى، وأما الوصية فيمكن إبطالها; لأنها تبرع بعد الموت .

        الرابع : أن قولهم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أن سعدا سيبرأ ... فالمرض ليس بمخوف" غير مسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم رجا أن يبقى ولم يجزم بذلك هذا ما دل له ظاهر النص، فلا يترتب على ذلك أن الموت غير مخوف، وأن الأمر بالوصية .

        (285) 3- ما رواه مسلم من طريق أبي المهلب، عن عمران بن الحصين رضي الله عنه "أن رجلا أعتق ستة مملوكين، ولم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول صلى الله عليه وسلم ، فجزأهم أثلاثا بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة".

        وجه الاستشهاد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل العتاق في المرض من الثلث، فكذلك سائر التبرعات، وإذا لم ينفذ العتق مع سرايته، فغيره أولى.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه :

        الوجه الأول : هذا الحديث مما اعترض فيه على مسلم ; ذلك أن محمد بن سيرين لم يسمعه من عمران بن الحصين مباشرة، وإنما سمعه من خالد الحذاء عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب، عن عمران، وقد اتفق العلماء على قبول صحيح مسلم إلا ما علل، وهذا منها، حيث إن الحديث من الطبقة الثانية من صحيح مسلم التي يأتي بها على سبيل المتابعة والاستشهاد.

        أجيب عليه : بأن ذلك لا يقدح في صحة الحديث، وإنما ذكره مسلم في المتابعات بعد ذكر الطرق الصحيحة الواضحة.

        الوجه الثاني : أن الحديث فيمن لم يبق للورثة مالا بدليل قوله : "لا مال [ ص: 310 ] له غيرهم"، وهذا خارج عن محل النزاع، فنحن وإياكم متفقون أنه ليس له أن يتصدق بجميع ماله عند موته للإجماع على ذلك ، ويدل على ذلك ما رواه جابر : أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : "من يشتريه مني" فلما رده كاملا دل على أنه فيمن لم يبق شيئا لوارثه .

        الوجه الثالث: أن الحديث يحمل على الوصية لا على التبرعات، بدليل ما ورد في بعض طرقه أنه أوصى، فهو خاص بالوصية.

        الوجه الرابع : أن هذا الحديث جاء فيه عند موته، وليس فيه أنه مريض، فالواجب أن يجعل هذا الحكم فيمن أعتق عند موته صحيحا أو مريضا، فمات إثر ذلك.

        وأجيب : أنه جاء في رواية : "أن رجلا أعتق في مرضه"، فتحمل رواية : "عند موته" على رواية "في مرضه" ; إذ المرض المذكور في الحديث هو مرض الموت .

        الوجه الخامس: أن الحديث إنما ورد في العتق خاصة، فلا تلحق سائر التبرعات بالعتق .

        وأجيب: بأن العتق إذا لم ينفذ مع قوة سرايته، فمن باب أولى أن لا تنفذ سائر التصرفات، فهذا قياس أولوي. [ ص: 311 ]

        الوجه السادس : أن النبي صلى الله عليه وسلم جزأهم بحسب العدد لا بحسب القيمة ، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر الثلث، وإلا لجزأهم بحسب القيمة .

        وأجيب : بأن الاثنين اللذين أعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا يمثلان ثلث قيمة الستة، يفهم من قوله : فجزأهم ثلاثة أجزاء.

        (286) 4- ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحدث عن الله تبارك وتعالى: "يا بن آدم خصلتان أعطيتكهما، لم تكن لغيرك، واحدة منهما: جعلت لك طائفة من مالك عند موتك أرحمك به - أو قال: أطهرك به - وصلاة عبادي عليك بعد موتك. "

        5- عن عائشة رضي الله عنها قالت: نحلني أبو بكر رضي الله عنه جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية، فلما مرض قال لي: "إني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالي بالعالية، فلو كنت جذذتيه وحزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث فاقتسموه بينكم على كتاب الله".

        وجه الاستشهاد وجهين :

        الوجه الأول : أنه أخبر أنها لو قبضت ذلك في الصحة تم لها ملكه ، وأنها لا تستطيع قبضه في المرض قبضا تتم لها به ملكيته، وجعل ذلك غير جائز، كما لا تجوز الوصية لها، ولم تنكر ذلك عائشة ولا سائر الصحابة ، فكان ذلك إجماعا منهم . [ ص: 312 ]

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه :

        الوجه الأول: أن عطيته كانت زمن الصحة لا زمن المرض، والذي منعها من تملكه أنها لم تقبضه ، فلو كانت قبضته لكان ملكا لها كما أخبرها ، وحيث إنها لم تقبض فلا زال في ملكه لم ينتقل إليها أصلا.

        ورد: بأنه غير مسلم، بل في بعض ألفاظ الأثر دليل على أنه في مرض الموت.

        الوجه الثاني: لو سلم أنها عطية في مرض الموت المخوف، فهل كانت هذه العطية أكثر من الثلث حتى يمنعها الصديق من تملكها؟ ومعلوم أنه رضي الله عنه من كبار تجار المدينة وأغنيائها، بل هي قطعا أقل منه، فدل على أن سبب ردها أنها لم تقبضها، فلم تنتقل لها بل لا زالت في ملكه، ثم قولكم : لو أنها حازته هل يصح ذلك أو لا؟ إن قلتم لا، لم يكن لقول أبي بكر رضي الله عنه فائدة ، وإن قلتم: نعم، فقد أجزتموه إذا.

        الوجه الثالث : قول أبي بكر رضي الله عنه : "إنما هو اليوم مال وارث" دل ذلك على أن المال انتقل إلى الورثة حكما، وأن المريض مرض الموت محجور عليه فيما يتعلق بتبرعاته لحق الورثة، يبقى ما استثناه الشارع وهو الثلث .

        (287) 6- ما رواه ابن أبي شيبة : حدثنا عبد الأعلى، عن برد، عن مكحول أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حياتكم، يعني : الوصية" . [ ص: 313 ]

        7 - القياس على الوصية; لأن الحال الظاهر منها الموت، فكان تبرعه فيها في حق الورثة لا تتجاوز الثلث، ذلك أن حصول سبب الموت بمنزلة حضور الموت.

        8- أن المريض إذا أحس بدنو أجله يحتمل أنه يقصد مضارة الورثة، أو إيثار بعض الورثة على بعض.

        ونوقش من وجوه :

        الوجه الأول: أنه ظن، والظن أكذب الحديث .

        وأجيب : بأن الظن المذموم الذي لا يعتمد على دليل، وهنا وجد الدليل وهو قرب الموت.

        الوجه الثاني : أن مظنة الضرار كما توجد من المريض قد توجد من الصحيح.

        وأجيب: بأن هذا غير مسلم; إذ الضرار هنا لا مبرر له; إذ هو معافى لا يتوقع الموت.

        الوجه الثالث : أن مظنة الضرار كما توجد من المريض توجد من الشيخ الفاني.

        وأجيب : بأن الشيخوخة لا حد لها بخلاف المرض الذي يقترن به الموت.

        الوجه الرابع : أن مظنة الإضرار بالورثة تتضح إذا كان الوارث غير ولد المريض.

        وأجيب : بأن تصرفات المريض مقيدة بنصوص شرعية ولم تفرق بين [ ص: 314 ] وارث وآخر، كما أن الخلاف بين الأولاد يكثر وخصوصا إذا كانوا أولاد علات.

        ونوقش: بأن هذا قياس مع الفارق ; ذلك أن الوصية تخالف الوقف في أمور منها :

        الأول: أن الوصية له الرجوع فيها، بخلاف الوقف فلا يملك حق الرجوع فيه.

        الثاني: أن الوصية لا حكم لقبولها أو ردها إلا بعد الموت، بخلاف الوقف فقبولها على الفور وكذا ردها، وغير ذلك.

        ثم إن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث، الصحيح والمريض فيها سواء، فكذا الوقف يقبل من الصحيح والمريض.

        أدلة القول الثاني: (جواز التبرعات مطلقا للمريض مرض الخوف) : استدلوا بما يأتي:

        1- ما ورد في الكتاب والسنة من الحث على الإحسان، كقوله تعالي : وافعلوا الخير ، وقوله : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ، وقوله: ولا تنسوا الفضل بينكم ، وقوله تعالى: إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم .

        وجه الاستشهاد: أن الله جل وعلا حث على التبرع والصدقة، ولم [ ص: 315 ] يخص بالأمر على ذلك الصحيح دون المريض، بل الأمر شامل لهما، فدل على أن تبرع المريض صحيح ولو زاد عن الثلث، ولا يخرج من هذا العموم إلا ما ورد الدليل عليه كالوصية بأكثر من الثلث، أو التصدق بجميع المال حال المرض، والنهي عن نسيان الفضل يتضمن الأمر ببذل الفضل; لأن النهي عن الشيء أمر بضده، والفضل عام في القليل والكثير، وقوله : إن المصدقين جمع معرف بأل، فيعم الصحيح والمريض، وحذف المعمول يؤذن بالعموم.

        فإذا اتفق على جواز وقفه في الصحة، فيستصحب هذا الإجماع في حال المرض، إلا أن يدل دليل، ولا دليل على ما ذكر.

        (289) 2- ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا قال: "أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر".

        (290) 3- ما رواه أبو داود من طريق أبي إسحاق، عن أبي حبيبة الطائي ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثل الذي يعتق عند الموت كمثل الذي يهدي إذا شبع". [ ص: 316 ]

        وجه الاستشهاد: في هذه الأحاديث تفاضل الصدقة، وكون صدقة الصحة خير من صدقة المرض، فدل على صحة صدقة المرض وقبولها، لكن صدقة الصحة أفضل، وقوله : "تصدق" دليل أنها تبرع لا وصية.

        قال ابن حجر رحمه الله : "تنجيز وفاء الدين والتصدق في الحياة، وفي الصحة أفضل منه بعد الموت وفي المرض".

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين :

        الوجه الأول : أن هذه العمومات خاصة بحال الصحة، أو المرض غير المخوف، أما حالة المرض المخوف فقد أخرجها عن هذه العمومات ما تقدم من أدلة الجمهور. [ ص: 317 ]

        الوجه الثاني: أن هذا محمول على المرض غير المخوف.

        وأجيب : أنه إذا أطلق المرض دل على العموم، وأيضا قوله : "عند موته" يدل على أنه مرض مخوف، ولهذا أعتق وتصدق.

        ورد : بما تقدم بأن حالة المرض المخوف خارجة عن هذا العموم، وأن قوله : "عند موته" يراد بها المرض غير المخوف.

        4 - حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أن رجلا أعتق عبدا له لم يكن له مال غيره; فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

        وجه الاستشهاد : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، رد العبد ولم يخص العتق، فدل على أن سبب المنع أنه لم يبق لورثته شيء، ولو قيل بصحة تبرعه في الثلث لقسمه الرسول صلى الله عليه وسلم أثلاثا لكنه لم يفعل، فدل ذلك على أن التبرع في مرض الموت ليس كالوصية .

        ونوقش هذا الاستدلال: أنه لم يقسمه أثلاثا; لأن ما سيبقى لا يغني الورثة، فهذا سبب المنع.

        (291) 5- ما رواه ابن حزم من طريق حماد بن سلمة، أنا يونس بن عبيد، عن محمد بن سيرين : "أن امرأة رأت فيما يرى النائم أنها تموت إلى ثلاثة أيام، فأقبلت على ما بقي من القرآن عليها فتعلمته، وشذبت مالها وهي صحيحة، فلما كان يوم الثالث دخلت على جاراتها، فجعلت تقول: يا فلانة أستودعك الله ، وأقرأ عليك السلام، فجعلن يقلن لها : لا تموتين اليوم، لا تموتين اليوم إن شاء الله ، فماتت، فسأل زوجها أبا موسى الأشعري عن ذلك؟ فقال له أبو موسى: أي امرأة كانت امرأتك؟ فقال : ما أعلم أحدا كان أحرى منها أن تدخل الجنة إلا الشهيد، ولكنها فعلت ما فعلت وهي [ ص: 318 ] صحيحة، فقال أبو موسى: هي كما تقول، فعلت ما فعلت وهي صحيحة، فلم يرده أبو موسى".

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن هذا الأثر دليل للجمهور; إذ قول أبي موسى: "فعلت ما فعلت وهي صحيحة" يدل على أن هذا هو أساس الحكم عنده، وأنه أجاز تصرفها لكونها صحيحة; إذ لو كانت مريضة لتغير الحكم، فدل على أن المرض له تأثير في تصرفات المريض.

        6- أن المعتبر في الشخص صحيحا كان أو مريضا أهليته ببقاء عقله ورشده; لأن العقل مناط الأحكام، ولهذا صح عند الجميع نكاح المريض وإسلامه وبيعه وشراؤه، فكذلك وقفه ; إذ المعتبر بقاء العقل.

        يدل لذلك أن المريض مرضا مخوفا متصلا بالموت إذا اختل عقله أنه لا حكم لكلامه ولا تبرعاته، فلم يكن للمرض اعتبار بل للعقل، فكذلك هنا، وهذا هو الأصل، فلا يخرج عنه إلا بدليل، ولا دليل .

        ونوقش هذا الاستدلال: أنه لا يسلم لكم ذلك، بل لكون المريض مرضا مخوفا متصلا بالموت بمنزلة من حضره الموت، فألحقت عطاياه بالوصية، كما قال تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين وحضور الموت : ظهور الدلائل، ووجود الأسباب، والمرض المخوف المتصل بالموت من الدلائل . [ ص: 319 ]

        وأجيب: أنه إذا كان المرض المخوف من دلائل حضور الموت، فلم لا تجعل تبرعاته ومحاباته من الوصية لا ملحقة بها.

        ورد: أنه يختلف عن الوصية في أمور منها:

        أنه إذا برأ من مرضه فإنها تلزمه ، وفي الوصية لا تلزمه .

        وأن الوصية لا حكم لقبولها أو ردها إلا بعد الموت، بخلاف العطية فقبولها أو ردها على الفور .

        نوقش: إذا فالتبرع في مرض الموت تخالف الوصية، فكيف تشبهها؟

        وأجيب : أنها ملحقة بها في كون حال المريض مرضا مخوفا متصلا بالموت الظاهر منه الموت.

        نوقش أيضا : فما تقولون في الشيخ الكبير الذي تجاوز التسعين أو المئة ؟ أليس حاله قريبة من الموت لكبره؟ ومع هذا فحكمه حكم الصحيح عندكم.

        وأجيب: أن الأصل صحة التبرع ; لعموم أدلة الأمر بالهبة ; إذ هي شاملة للصغير ، والكبير، فيقتصر على مورد النص.

        7- قياس ما يتقرب به من التبرعات على ما ينفقه من ماله على ملاذه ومنافعه، فتكون من رأس المال.

        نوقش هذا الاستدلال : بأن ما اختص به المريض من مصالحه فهو أحق به من الورثة، وما عاد إلى غيره من التبرع فورثته أحق به، فلذلك أمضيت [ ص: 320 ] نفقاته من رأس المال لتعلقها بمصالحه في حال حياته، وجعلت تبرعاته من ثلثه ; لتعلقها بمصلحة غيره.

        وأجيب: أنه لا يسلم أن صدقته لمصلحة غيره، بل هي لمصلحة نفسه ، بل أعظم من مصلحة إنفاقه على ملاذه ومنافعه فهو أحوج ما يكون إليها .

        ونوقش : بالفرق فما ينفقه على نفسه مصلحته مباشرة بالنسبة له فكانت أقوى، بخلاف ما ينفقه على غيره.

        8- قياس صحة تبرعاته وهباته على صحة بيعه وشرائه ونكاحه في مرضه المخوف.

        نوقش هذا الاستدلال: أن بيعه وشراءه ونكاحه بعوض، أما تبرعاته وصدقاته فبدون عوض .

        وأجيب : لا يسلم أن عطيته في مرض الموت بلا عوض، بل بعوض في الدنيا، وهو الدعاء له ومحبته، وعلو منزلته وقدره، وفي الآخرة بالأجر والمثوبة.

        ونوقش: بالفرق بين العوضين; إذ العوض المادي في البيع والشراء والاستمتاع في النكاح مقصود قصدا أصليا في عرف الناس، ولذلك يتشاحون فيه، ولا يتنازلون عنه ، بخلاف ما ذكر من المحبة والتقدير، ونحو ذلك.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - القول الأول أنه يحجر على المريض في ثلث ماله إذا كان مرضه مخوفا; لأن المريض مرض الموت في حكم الميت; إذ هو [ ص: 321 ] في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة، والشخص بعد موته له التبرع بالثلث صدقة من الله عز وجل ، ولما في ذلك من المحافظة على حقوق الورثة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية