الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث الثالث

        منع الموقوف عليه من الانتفاع بالوقف، أو بعضه

        الأصل في الوقف أنه تحبيس العين وتسبيل المنفعة، فالموقوف عليه يستفيد من منفعة الوقف على حسب شرط الواقف، لكن قد توجد في الموقوف عليه عوارض تمنعه من الانتفاع بالوقف أو بعضه، ومن أهم أسباب منعه من الانتفاع بالوقف أو بعضه ما يلي:

        أولا: مصلحة العين الموقوفة :

        تقتضي مصلحة العين الموقوفة - أحيانا - منع الموقوف عليه من الانتفاع بالوقف من ذلك على سبيل المثال ما يلي :

        1- إذا كانت العين الموقوفة دارا أو نحوها فاحتاجت إلى العمارة وكان الموقوف عليه منتفعا بها وأبى عمارتها، فإنها تؤخذ منه وتستغل من أجل الإنفاق على عمارتها من الغلة كما سبق بيانه، أو كان الموقوف عليه مستغلا للعين الموقوفة، ولا يمكن الجمع بين العمارة والصرف للموقوف عليه، فإن الغلة تصرف كلها للعمارة صيانة لذات الوقف من الخراب، كما سبق بيانه أيضا .

        2- إذا كانت العين الموقوفة أمة واحتاجت إلى الزوج وطلبته ، فإنه يتعين [ ص: 190 ] التزويج والحالة هذه; لأنه حق لها طلبته فتتعين الإجابة إليه، ولا يخفى أن في تزويجها تفويت الانتفاع على الموقوف عليه في بعض الأوقات حيث تفوت خدمة الأمة في الليل; لأن النكاح متعلق به حقوق من وجوب تمكين الزوج من استمتاعها ومبيتها عنده، وقد سبق بيان حكم تزويج الأمة؟.

        وعلى كل حال فمراعاة مصلحة العين الموقوفة أمر مقدم، فإذا وقع الضرر في انتفاع شخص من الأشخاص من الوقف، أو وجدت مصلحة في منعه من الانتفاع، فإنه يمنع من الانتفاع بالوقف دفعا للمضرة وجلبا للمصلحة، حتى قال بعض الفقهاء : لو طال مقام رجل في بقعة وخيف من مقامه اشتهارها به، واندراس الوقف، فللإمام نقله منها .

        ثانيا: مصلحة الموقوف عليه:

        كما أن مصلحة العين الموقوفة قد تقتضي المنع من الانتفاع منها، كذلك فإن مصلحة الموقوف عليهم قد تقتضي منع الموقوف عليه من الانتفاع بالوقف أو بعضه، كما لو كانت العين الموقوفة أمة، فإن الموقوف عليه يمنع من الانتفاع بوطئها; لأن في ذلك ضررا على من بعده من البطون، وذلك أنه لا يؤمن حبلها فتنقص أو تتلف أو تخرج من الوقف بكونها أم ولد - عند من يرى ملكية الموقوف عليه للعين الموقوفة .

        وعلى كل حال فإنه يحرم على الموقوف عليه وطؤها; لأن ذلك قد يفضي إلى نقص نفعها أو تفويتها على البطن الثاني.

        وقد سبق بيان حكم وطء الأمة الموقوفة . [ ص: 191 ]

        ثالثا: تزاحم الموقوف عليهم وتعذر استيعابهم بمنفعة الوقف:

        إذا تزاحم الموقوف عليهم وتعذر استغراقهم بمنفعة الوقف، فإنه يقدم الأهم فالأهم، ويمنع ما عدا ذلك.

        مثال ذلك: ما ذكره ابن نجيم بقوله: "إذا ضاق المسجد كان للمصلي أن يزعج القاعد من موضعه ليصلي فيه - وإن كان مشتغلا بالذكر أو الدرس، أو قراءة القرآن، أو الاعتكاف - ، وكذا لأهل المحلة أن يمنعوا من ليس منهم من الصلاة فيه إذا ضاق بهم المسجد".

        وكذلك قال المالكية في الدار الموقوفة على أشخاص للسكنى فسكن فيها بعضهم، فلم يجد بعضهم الآخر مسكنا فلا شيء له، ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله : "من حبس على ولده دارا، فسكنها بعضهم ولا يجد بعضهم سكنا، فيقول الذين لم يجدوا منهم سكنا : أعطوني من الكراء بحسب حقي.

        قال : لا أرى ذلك له، ولا أرى أن يخرج أحد لأحد، ولكن إن غاب أحد أو مات سكن فيه، وهكذا حبس ابن عمر وزيد بن ثابت، لا يخرج أحد ولا يعطى من لم يجد مسكنا كراء".

        وعلى كل حال فإنه وإن كان قول المالكية فيه خلاف، إلا أنه يدل على أن منع الموقوف عليه من الانتفاع بالوقف بسبب التزاحم أمر ممكن دفعا للضرر، والله أعلم. [ ص: 192 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية