الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الرابع

        استثمار الوقف في الاستصناع

        وفيه مسائل:

        المسألة الأولى: تعريف الاستصناع في اللغة والاصطلاح:

        الاستصناع استفعال من صنع، فالألف والسين للطلب، يقال : استغفار لطلب المغفرة، والصنع: بالضم مصدر قولك صنع إليه معروفا وصنع به صنيعا قبيحا أي : فعل ، والصناعة - بكسر الصاد - : حرفة الصانع، واصطنعه : اتخذه، قال تعالى : واصطنعتك لنفسي [ ص: 151 ] قال ابن منظور: "ويقال: اصطنع فلان خاتما ; إذا سأل رجلا أن يصنع له خاتما". واستصنع الشيء: دعا إلى صنعه، فالاستصناع لغة : طلب الفعل . وفي الاصطلاح: اختلفت عبارات العلماء في تعريف الاستصناع ويرجع ذلك إلى اختلافهم في حقيقة الاستصناع وتكييفه.

        حيث أدخله الجمهور ضمن السلم، أما الأحناف فعدوه عقدا مستقلا ، لكنهم اختلفوا في تعريفه، ومرجع ذلك الاختلاف إلى إدخال بعض القيود أو إخراجها، ومن تلك التعريفات :

        قال الكاساني : هو عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل" .

        وقال ابن الهمام: "الاستصناع : طلب الصنعة، وهو أن يقول لصانع خف أو مكعب أو أواني الصفر : اصنع لي خفا طوله كذا وسعته كذا، أو دستا أي : برمة تسع كذا وزنها كذا على -هيئة كذا بكذا، ويعطى الثمن المسمى أولا يعطي شيئا فيعقد الآخر معه".

        وقال السمرقندي: "هو عقد على مبيع في الذمة، وشرط عمله على الصانع 0

        وفي مجلة الأحكام العدلية : "مقاولة مع أهل الصنعة على أن يعمل شيئا . [ ص: 152 ]

        ويمكننا أن نقول : إن الاستصناع هو: "عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل على وجه مخصوص بثمن معلوم".

        ودليله:

        (264) 1- ما رواه البخاري ومسلم من طريق نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم : اصطنع خاتما من ذهب، وجعل فصه في بطن كفه إذا لبسه، فاصطنع الناس خواتيم من ذهب، فرقي المنبر، فحمد الله ، وأثنى عليه، فقال: "إني كنت اصطنعته، وإني لا ألبسه" فنبذه، فنبذ الناس، قالت جويرية : ولا أحسبه إلا قال: "في يده اليمنى".

        وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم استصنع خاتما من ذهب، ففيه مشروعية الاستصناع، وأما إلقاؤه له فلأنه كان من الذهب وقد حرم على الرجال التزين به، بدليل أنه اتخذ بعد ذلك خاتما من فضة.

        (265) 2- ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي حازم سهل قال : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة - امرأة قد سماها سهل - : "مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمت الناس، فأمرته فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها، فأرسلت إلى رسول الله فأمر بها فوضعت ها هنا..." .

        وجه الدلالة : أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من المرأة أن تأمر غلامها بصنع المنبر، فدل على مشروعيته . [ ص: 153 ]

        ونوقش : باحتمال أن يكون صناعته على سبيل التبرع لا على سبيل التعاقد.

        3- أن التعامل من غير نكير على مر العصور في المباني والأحذية والأثاث ونحوها، وهو يتضمن إجماعا عمليا .

        ونوقش: بعدم التسليم للإجماع، بدليل مخالفة جمهور العلماء للقول بمشروعية الاستصناع .

        4- أن حاجة الناس إلى الاستصناع كبيرة، وفي الشرع مراعاة لحاجات الناس بل هو من مقاصده ; لما في ذلك من التيسير عليهم والرفق بهم، كما في التيمم والمسح على الخفين وعقد السلم وغير ذلك، فجاز الاستصناع استحسانا .

        ونوقش: بأن الحاجة تندفع بما أباحه الله من العقود، كالسلم.

        وأجيب : بأن الحاجة إلى الاستصناع كبيرة، وقد سبق بيان شيء من ذلك، وفي ترك ضرر بالمسلمين، فليس كل ما يباع جاهزا مناسبا، بل ليس كل ما يحتاجه المرء يجده جاهزا، خاصة وأن الباعة لا يصنعون ما يقل شراؤه ; لما في ذلك من الخسارة بكساد البضاعة وعدم وجود مشتر لها، فيحتاج الناس إلى من يصنع ما يحتاجونه حال طلبهم، وبالصفة التي يريدونها، وهذا هو الاستصناع، أما السلم فلا يكفي للوفاء بحاجة المجتمع لكونه يشترط لصحته تعجيل الثمن، ولا يصح فيه اشتراط الصانع.

        قال الكاساني: "فيه معنى عقدين جائزين وهو السلم والإجارة ; لأن السلم عقد على مبيع في الذمة، واستئجار الصناع يشترط فيه العمل، وما اشتمل على معنى عقدين جائزين كان جائزا". [ ص: 154 ]

        والمراد باستثمار الوقف في الاستصناع : أن يقوم الوقف باستثمار أصوله أو إيراداته بهذا العقد بطريقتين اثنتين هما :

        الطريقة الأولى : أن يقوم باستثمار أصوله بصفته مستصنعا، وهذه الصورة هي الأشهر في صور الاستثمار الوقفي بصيغة الاستصناع، وذلك بأن يكون الواقف طالبا للاستصناع، فيتم الاتفاق بين إدارة الوقف وجهة ممولة تقيم بناء على أرض الوقف على أن تشتريه إدارة الأوقاف، بناء على اتفاق مسبق بثمن مؤجل على أقساط سنوية أو شهرية، والغالب أن تكون أقل من الأجرة المتوقعة من تأجير المبنى، وهو على هذا من صيغ استثمار الوقف باعتبار الوقف طالبا للتمويل الذي يحقق الغبطة له.

        الطريقة الثانية : أن يقوم الوقف باستثمار إيراداته بصفته صانعا يطلب الربح عن طريق عقد الاستصناع، فيكون الوقف هنا ممولا باعتباره صانعا، واختيار كون المؤسسة الوقفية مستصنعا أو صانعا يتم وفقا لقدراتها، وما يحقق مصالحها.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية