المطلب الثالث
القصاص في الجناية على طرف الموقوف
اختلف العلماء في مسألة القصاص في الجناية على طرف الموقوف على قولين:
القول الأول: أنه يجب . القصاص على الجاني على طرف الموقوف وجارحه
وهو قول الحنابلة، وهو مقتضى إطلاق المالكية، والشافعية.
القول الثاني: أنه لا قصاص في الجناية على طرف الموقوف، وإنما تجب قيمته .
وهذا هو قول الحنفية، حيث إن حكم عبيد الوقف عندهم في الجنايات [ ص: 239 ] حكم الأرقاء على العموم، والمعتمد عندهم أنه لا قصاص في أطراف العبيد مطلقا .
القول الثالث : يقتص من العبد الأدنى للأعلى ولا عكس.
وبه قال بعض الحنفية .
وهذا يحتاج إلى معرفة الأعلى، وهو غير منضبط .
الأدلة:
أدلة القول الأول: (وجوب القصاص) :
استدل أصحاب هذا القول:
1- عموم قوله تعالى: والجروح قصاص .
فإن هذه الآية عامة في كل جرح، والجناية على طرف العبد وجرحه داخلة في هذه الآية، كما دخلت فيها الجناية على طرف الحر وجرحه.
2- أن لم تتخلف في حق الجاني على عبد الوقف وأمته ، وهي نيل التشفي ودفع مفسدة التجري على الدماء بالجناية والاستيفاء ، فلولا القصاص في الجروح والأطراف لأهلك الناس بعضهم بعضا ابتداء واستيفاء ; كما سبق بيانه في القصاص في النفس. [ ص: 240 ] الحكمة من القصاص في الجروح والأطراف
أدلة القول الثاني: (عدم وجوب القصاص)
حديث: "ادرؤوا الحدود بالشبهات".
وجه الدلالة: أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال; لأنها وقاية الأنفس كالأموال، ولا مماثلة بين طرفي العبدين للتفاوت في القيمة، وإن تساويا فيها فذلك بالحرز والظن ، وليس بيقين، فصار شبهة فامتنع القصاص، بخلاف طرفي الحر; لأن استواءهما متيقن بتقويم الشرع.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين :
الوجه الأول: أن كون الأطراف يسلك بها مسلك الأموال قضية تحتاج إلى دليل، وليس كل ما كان وقاية للنفس سلكنا به مسلك الأموال، وإلا للزم أن نسلك بالدين وطاعة الله مسلك الأموال; إذ هو وقاية للنفس، كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله
الوجه الثاني : أن الجناية على النفس، وما دونها يدخل على المجني عليه من الغيظ والعداوة والرغبة في الثأر ما لا تدخله الجناية على الأموال فافترقا .
2- بأن القصاص استهلاك الوقف وتفويته .
وهذا الدليل سبق في مسألة الجناية على نفس الوقف، وسبقت مناقشته هناك . [ ص: 241 ]
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - القول الأول; لقوة دليله، ولما في ذلك من قطع دابر الشر والفساد; لأن ترك القصاص سيجعل الآخرين يجرؤون على عبد الوقف لعلمهم بعدم القود، وفي ذلك من الفساد ما فيه ، ولكن الله سبحانه وتعالى أثبت القصاص بالجروح عموما ; قطعا لتلك المفاسد التي إنما شرع القصاص لقطعها، والله أعلم.
فرع:
اختلف من قال بوجوب القصاص في الجناية على أطراف الموقوف فيمن له حق استيفاء القصاص من طرف الجاني:
القول الأول : أن حق الاستيفاء للمجني عليه وهو عبد الوقف أو أمته .
وبه قال الحنابلة.
القول الثاني : أن حق الاستيفاء للمجني للحاكم.
وبه قال بعض الشافعية .
القول الثالث: أنه ينبني على ملكية الوقف، فإن كانت لله فللحاكم حق الاستيفاء ، وإن كانت ملكية الوقف للموقوف عليه فله حق الاستيفاء .
وبه قال بعض الشافعية.
الأدلة:
أدلة الرأي الأول:
أن القصاص حق المجني عليه الموقوف لا يشاركه فيه أحد، وهو [ ص: 242 ] الموافق لحكمة القصاص، وهي إدراك الثأر ونيل التشفي وقطع ما يمكن أن يجره التعدي على عبد الوقف من التجري على الدماء بالجناية والاستيفاء.
دليل القول الثاني: أن حق القصاص للحاكم:
بناء على خروج الوقف إلى ملك الله تعالي.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن خروج الوقف إلى ملك الله عز وجل معناه عدم نقل الملكية فيه، وعدم رجوعه إلى الواقف ونحو ذلك، ولا يلزم من ذلك ألا يكون للوقف حق الاستيفاء.
دليل القول الثالث: (أنه ينبني على ملكية الوقف) :
أن المالك هو المستحق للقصاص كالسيد مع عبده الطلق .
ونوقش هذا الاستدلال: بأن الملك في الوقف انتقل على الصحيح إلى الله ، وتقدم مناقشة دليل القول بأن حق القصاص للحاكم بناء على ملكية الوقف لله عز وجل .
الراجح - والله أعلم - هو ما ذهب إليه أهل القول الأول; لقوة دليله، ولتوافقه مع حكمة القصاص.