الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        المبحث الثالث

        شروط الوالي على الوقف

        الشرط الأول: البلوغ:

        وهذا الشرط اتفق عليه الأئمة، حيث قال به الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

        فعلى هذا لو أسند الواقف النظر إلى صغير، أو كان الموقوف عليه صغيرا، ولم يعين الواقف ناظرا تعين منع الصغير من مباشرة النظر على الوقف، وقام وليه مقامه في النظر على الوقف.

        وقال بعض الفقهاء: "إن الإسناد إلى الصغير لا يصح بحال، لا على سبيل الاستقلال بالنظر، ولا على سبيل المشاركة لغيره".

        والدليل على ذلك:

        1- ما تقدم من الأدلة على عدم صحة وقف الصغير.

        وجه الدلالة: أن الصغير إنما منع من الوقف - وإن كان فيه أجر وثواب [ ص: 347 ] في الآخرة - ; لكون عبارته ملغاة، ولما فيه من تضييع ماله، وتفويت مصالحه، وإذا كان كذلك منع من نظارة الوقف.

        2- قياس نظر الصغير على الوقف على نظره على ملكه الطلق بطريق الأولى; وذلك أن الصغير إذا منع من نظره في ملكه الطلق، فلأن يمنع من النظر على الوقف من باب أولى.

        الشرط الثاني: العقل:

        وهذا الشرط اتفق عليه الأئمة أيضا، حيث هو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

        فعلى هذا لا تصح تولية المجنون نظارة الوقف.

        والدليل على ذلك:

        1- ما تقدم من الأدلة على عدم صحة وقف المجنون.

        وجه الدلالة : دلت هذه الأدلة على عدم صحة وقف المجنون; لإلغاء عبارته، وتضييع ماله ، وإذا لم يصح تصرفه بالتبرع لم يصح تصرفه بالنظر على الوقف ; بجامع العلة السابقة.

        2- قياس نظر المجنون على الوقف على نظره على ملكه بطريق الأولى; [ ص: 348 ] وذلك أن المجنون إذا منع من نظره في ملكه المطلق، فلأن يمنع من النظر في الوقف أولى.

        الشرط الثالث: القوة والقدرة على القيام بشؤون الوقف:

        وهذا الشرط قال به عامة الفقهاء، فقد قال به الحنفية، والمالكية، والشافعية ، والحنابلة.

        وللشافعية فيه وجه ضعيف بعدم اشتراط هذا الشرط .

        جاء في البحر الرائق: "وفي الإسعاف : لا يولى إلا أمين قادر بنفسه أو بنائبه ; لأن الولاية مقيدة بشرط النظر، وليس من النظر تولية الخائن; لأنه يخل بالمقصود وكذا تولية العاجز; لأن المقصود لا يحصل به، ويستوي فيه الذكر والأنثى، وكذا الأعمى والبصير، وكذا المحدود في قذف إذا تاب; لأنه أمين رجل طلب التولية على الوقف".

        وجاء في التاج والإكليل: "قال ابن رشد: لا يصح لإنسان أن يتصرف في ماله إلا بأربعة أوصاف وهي: البلوغ والحرية وكمال العقل وبلوغ الرشد". [ ص: 349 ]

        وجاء في روضة الطالبين : "لا بد من صلاحية المتولي لشغل التولية ، والصلاحية بالأمانة، والكفاية في التصرف، واعتبارهما كاعتبارهما في الوصي والقيم، وسواء في اشتراطهما المنصوب للتولية والواقف إذا قلنا : هو المتولي عند الإطلاق، وسواء الوقف على الجهة العامة والأشخاص المعينين.

        وقيل : لا تشترط العدالة إذا كان الوقف على معينين ولا طفل فيهم، فإن خان حملوه على السداد، والصواب المعروف هو الأول".

        جاء في مطالب أولي النهى: "(و) شرط فيه أيضا (كفاية تصرف وخبرة) أي : علم (به) أي : التصرف (وقوة عليه) ; لأن مراعاة حفظ الوقف مطلوبة شرعا، وإذا لم يكن المتصرف متصفا بهذه الصفات لم يمكنه مراعاة حفظ الوقف، ولا تشترط في الناظر الذكورية ; لأن عمر أوصى بالنظر لحفصة رضي الله عنها .

        الأدلة على هذا الشرط:

        1- قوله تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما .

        وجه الدلالة : أن الله تعالى أمرنا بحراسة أموالنا من أن تبذر وتنفق في غير وجهها ، فلا نؤتيها إلا من توفرت فيه الكفاية في التصرف والخبرة به.

        2- قوله تعالى : إن خير من استأجرت القوي الأمين .

        3- أن الولاية مقيدة بشرط النظر، وليس من النظر تولية العاجز; لأن [ ص: 350 ] المقصود لا يحصل به، وذلك أن مراعاة حفظ الوقف مطلوبة شرعا; وإن لم يكن الناظر متصفا بهذه الصفة لم يمكنه مراعاة حفظ الوقف.

        الشرط الرابع: الإسلام فيما وقف على مسلم، أو جهة إسلامية:

        إذا كان الوقف على مسلم، أو جهة إسلامية، فقد اختلف الفقهاء في اشتراط إسلام الناظر على قولين :

        القول الأول: أن الإسلام شرط لصحة الولاية على الوقف، فلا يولى غير مسلم على ما وقف على مسلم، أو جهة إسلامية عامة، كالمساجد، والمدارس، ونحوها.

        وهذا هو قول جمهور الفقهاء، حيث قال به المالكية، والشافعية ، والحنابلة.

        جاء في مغني المحتاج: "(وشرط الناظر العدالة) وإن كان الوقف على معينين رشداء; لأن النظر ولاية كما في الوصي والقيم.

        قال السبكي: ويعتبر في منصوب الحاكم العدالة الباطنة، وينبغي أن يكتفى في منصوب الواقف بالظاهرة، كما في الأب وإن افترقا في وفور شفقة الأب، وخالف الأذرعي فاعتبر فيه الباطنة أيضا والأول أوجه ".

        جاء في الإنصاف: "السابعة: يشترط في الناظر الإسلام والتكليف والكفاية في التصرف والخبرة به والقوة عليه ، ويضم إلى الضعيف قوي أمين، [ ص: 351 ] ثم إن كان النظر لغير الموقوف عليه وكانت توليته من الحاكم أو الناظر، فلا بد من شرط العدالة فيه. قال الحارثي : بغير خلاف علمته".

        القول الثاني : أن الإسلام ليس شرطا لصحة الولاية على الوقف.

        وهذا هو قول الحنفية.

        قال ابن عابدين: "ويشترط للصحة بلوغه، وعقله، لا حريته، وإسلامه".

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (أن الإسلام شرط) : استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

        1- قول الله تعالى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا .

        وتولية الكافر النظر على ما وقف على مسلم أو جهة إسلامية عامة داخل في جملة ما نفاه الله سبحانه وتعالى - ومنع وقوعه.

        2- قول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . فكل ولاية من ولايات المسلمين نهى الله سبحانه وتعالى أن نتخذ فيها يهوديا أو نصرانيا، مما يدل بمفهومه على أنه لا يولى فيها إلا مسلم.

        3- ولما في تولية الكافر على أوقاف المسلمين من مفاسد كثيرة: منها [ ص: 352 ] ما يرجع على ذات الوقف، ومنها ما يرجع على الموقوف عليه، ومنها ما يرجع على عامة المسلمين.

        أما ما يرجع على ذات الوقف فلا يخفى أن الكافر لا يحب إعلاء كلمة الله ، فمتى ما كان الوقف مقصودا به إعلاء كلمة الله ، كأن يكون موقوفا على الثغور والجهاد في سبيل الله، فإن الكافر المتولي سيعمل ما وسعه على تعطيل الوقف أو تدميره، وكذلك الحال لو كان الوقف مسجدا، أو دار علم للمسلمين .

        وأما ما يرجع على الموقوف عليهم فإن نصب ناظر كافر على وقفهم قد يدفعهم ذلك إلى محاولة كسب وده، وربما أدى بهم ذلك إلى الخنوع له والخضوع لما يريد منهم، وأما ما يرجع على عامة المسلمين فهي تمكن الكفار في بلاد المسلمين، وقوة شوكتهم، واتساع سلطانهم، وبسط نفوذهم بحجة القيام بواجبهم تجاه أوقاف المسلمين، وهذا أمر لا يخفى على أحد.

        دليل القول الثاني: (عدم اشتراط الإسلام) :

        (293) 1 - ما رواه البخاري من طريق عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "... واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا - والخريت: الماهر بالهداية - قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال...".

        وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بالكافر في دلالة الطريق، فكذا في نظارة الوقف.

        ونوقش هذا الاستدلال : بأنه مسلم بشرط أن لا يتضمن محظورا شرعيا كما هنا.

        [ ص: 353 ] 2 - الأدلة الدالة على العمل بشرط الواقف .

        ونوقش هذا الاستدلال: بالتسليم بالعمل بشرط الواقف ما لم يتضمن محظورا شرعيا كما هنا.

        الترجيح :

        الراجح - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول القائل باشتراط الإسلام لصحة الولاية على الوقف; لقوة ما استدلوا به.

        الشرط الخامس: العدالة، أو الأمانة:

        وهذا الشرط اختلف الفقهاء فيه على أربعة أقوال:

        القول الأول: أن العدالة في ناظر الوقف شرط أولوية لا شرط صحة .

        وهذا قول أكثر الحنفية، وعند شيخ الإسلام: تشترط الأمانة.

        قال شيخ الإسلام: "فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، والقوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال...والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام... والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا، وترك خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل من حكم على الناس في قوله تعالى : فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . [ ص: 354 ]

        القول الثاني: أن العدالة شرط لصحة الولاية على الوقف مطلقا دون تفريق بين الموقوف عليه، ومنصوب الواقف، وغيرهما .

        وبهذا قال بعض الحنفية، وهو قول الشافعية .

        القول الثالث : أن العدالة شرط في صحة ولاية الوقف ما لم يكن الناظر هو الموقوف عليه، أو منصوبا من قبل الواقف.

        وهذا هو قول المالكية ، وبه قال الحنابلة.

        القول الرابع : أن العدالة ليست شرطا لولاية الوقف إذا كان على معينين راشدين.

        وهذا قول ضعيف للشافعية.

        الأدلة:

        دليل القول الأول: (عدم اشتراط العدالة) :

        قياس الناظر على القاضي بطريق الأولى; وذلك أن القضاء أشرف من التولية، ويحتاط فيه أكثر من التولية، والعدالة فيه شرط أولوية فيصح تقليد الفاسق القضاء، وإذا فسق لا ينعزل، فكذا ناظر الوقف.

        ونوقش: بعدم التسليم في كون العدالة لا تشترط في صحة تولية القاضي، بل لا يصح تولية القاضي إلا إذا كان عادلا ، فلا يجوز تولية [ ص: 355 ] الفاسق; لعموم قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ، فأمر تبارك وتعالى بالتبين عند قبول قول الفاسق، ولا يجوز أن يكون الحاكم ممن لا يقبل قوله، ويجب التبيين عند حكمه، ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهدا، فلئلا يكون قاضيا أولى.

        دليل أصحاب القول الثاني: (اشتراط العدالة) :

        أن مقصد الوقف هو استمرار المنفعة، وجريان الصدقة على الدوام، وولاية الأوقاف مقيدة بشرط النظر، وليس من النظر تولية الخائن; لأنه يخل بهذا المقصود، وربما أدى إلى هلاك الوقف، وتعطل نفعه .

        ونوقش : بأنه يسلم أن الخائن لا يولى لما ذكر، لكن لا يدل ذلك على اشتراط العدالة، وإنما يدل على اشتراط الأمانة.

        دليل أصحاب القول الثالث: (اشتراط العدالة في الناظر إذا كان موقوفا عليه أو منصوبا من قبل الواقف:

        أن العدالة إنما اشترطت لحفظ حق الموقوف عليه، فإذا كان الناظر هو الموقوف عليه فلا حاجة إلى اشتراطها ; لأنه ينظر لنفسه، فكان له ذلك، كما في ملكه الطلق، أما إذا كان منصوبا من قبل الواقف فلا تشترط فيه العدالة وضم إلى الفاسق عدل ; لأن في إبقائه تحقيقا لشرط الواقف، ويضم إليه عدل حفظا للوقف .

        ونوقش : بأن ما ذكروه دليلا على صحة تولية الفاسق إذا كان موقوفا عليه [ ص: 356 ] لا يكفي ; وذلك لأن وظيفة ناظر الوقف لا تقتصر على رعاية منافع العين الموقوفة، وإنما حفظ عين الوقف والقيام بشؤونها، وحفظ العين لا تخص الموقوف عليه، فإذا لم تتوفر فيه العدالة لم يصح توليته نظارة الوقف; لاحتمال أن يؤدي ذلك إلى ضرر عين الوقف، فيلحق الضرر واقف العين بتوقف جريان الصدقة ، كما يلحق الضرر ما يأتي من البطون الموقوف عليها، فالقول إن الموقوف عليه إذا كان ناظرا فهو ينظر لنفسه غير دقيق حتى تصحح ولايته رغم فسقه، وإنما نظره شامل لحقه، وحق الواقف، وحق ما يأتي من البطون.

        وأما الاحتجاج على صحة تولية غير العدل إذا كان منصوبا من قبل الواقف بتحقيق شرط الواقف : فإن تحقيق شرط الواقف ومراعاته إنما يكون إذا لم يخالف الشرع، أما إذا خالف مقتضيات الشرع فلا يجوز العمل به اتفاقا.

        دليل أصحاب القول الرابع: (صحة تولية الفاسق إذا كان الموقوف عليه رشيدا) :

        أن الموقوف عليهم إذا كانوا راشدين لا يمكنون الناظر من الخيانة، فمتى ما رأوا منه شيئا من ذلك حملوه على السداد.

        ونوقش: بأنه ليس من لازم كون الموقوف عليه معينا رشيدا ألا يقع من ناظر وقفه خيانة، كما أنه ليس كل من وقع عليه ظلم دفعه، والواقع يشهد لذلك، فكم من أوقاف أكلها النظار عليها والموقوف عليه حاضر رشيد، [ ص: 357 ] بحجة عدم الرغبة في الخوض في المشاكل، أو أن ما يأتيه من ريع الوقف لا يساوي تعطله في متابعة الناظر، وهذا أمر واضح لا يخفى .

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - القول الأول القائل بأن العدالة ليست شرطا لصحة النظر على الوقف، لكن تشترط الأمانة لصحة النظر على الموقوف ; لدلالة القرآن، ولأن فيه حماية للوقف من الضياع بخلاف الأقوال الأخرى، ومراعاة جانب الوقف أهم من إبقاء ولاية الخائن عليه ، وإن كان موقوفا عليه ، أو منصوبا من قبل الواقف.

        الشرط الخامس: الحرية:

        وهي شرط عند الشافعية فقط.

        أما الحنفية : فإنهم نصوا على عدم اعتبار الحرية في نظارة الوقف .

        قال ابن عابدين: "ويشترط للصحة بلوغه وعقله ، لا حريته وإسلامه".

        وأما المالكية، والحنابلة : فلم يتعرضوا لذكر الحرية عند سياقهم شروط ولاية الوقف مما يدل على أنهم لا يرونها شرطا في ذلك، والله أعلم .

        والدليل على ذلك: عموم أدلة النظر على الوقف، وهذه تشمل الرقيق .

        أما الذكورة، والبصر : فليسا من شروط صحة النظارة على الوقف ، [ ص: 358 ] فيجوز أن تتولى المرأة نظارة الوقف; لما ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى بالنظر إلى ابنته حفصة رضي الله عنها ، وكذلك يجوز أن يتولى الأعمى نظارة الوقف. [ ص: 359 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية