فالأول : العفو : عفو الله - تعالى - عن خلقه ، وذلك تركه إياهم فلا يعاقبهم ، فضلا منه . قال الخليل : وكل من استحق عقوبة فتركته فقد عفوت عنه . يقال : [ ص: 57 ] عفا عنه يعفو عفوا . وهذا الذي قاله الخليل صحيح ، وقد يكون أن يعفو الإنسان عن الشيء بمعنى الترك ، ولا يكون ذلك عن استحقاق . ألا ترى أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : فليس العفو هاهنا عن استحقاق ، ويكون معناه تركت أن أوجب عليكم الصدقة في الخيل . عفوت عنكم عن صدقة الخيل
ومن الباب العافية : دفاع الله - تعالى - عن العبد ، تقول عافاه الله - تعالى - من مكروهة ، وهو يعافيه معافاة . وأعفاه الله بمعنى عافاه . والاستعفاء : أن تطلب إلى من يكلفك أمرا أن يعفيك منه . قال الشيباني : عفا ظهر البعير ، إذا ترك لا يركب وأعفيته أنا .
ومن الباب : العفاوة : شيء يرفع من الطعام يتحف به الإنسان . وإنما هو من العفو وهو الترك ، وذلك أنه ترك فلم يؤكل . فأما قول : الكميت
وظل غلام الحي طيان ساغبا وكاعبهم ذات العفاوة أسغب
فقال قوم : كانت تعطي عفو المال فصارت تسغب لشدة الزمان . وهذا بعيد ، وإنما ذلك من العفاوة . يقول : كما يرفع لها الطعام تتحف به ، فاشتد الزمان عليهم فلم يفعلوا ذلك .
وأما العافي من المرق فالذي يرده المستعير للقدر . وسمي عافيا لأنه يترك فلم يؤكل . قال :
إذا رد عافي القدر من يستعيرها
[ ص: 58 ] ومن هذا الباب : العفو : المكان الذي لم يوطأ . قال :
قبيلة كشراك النعل دارجة إن يهبطوا العفو لا يوجد لهم أثر
أي إنهم من قلتهم لا يؤثرون في الأرض .
وتقول : هذه أرض عفو : ليس فيها أثر فلم ترع . وطعام عفو : لم يمسه قبلك أحد ، وهو الأنف .
فأما قولهم عفا : درس ، فهو من هذا; وذلك أنه شيء يترك فلا يتعهد ولا ينزل ، فيخفى على مرور الأيام . قال لبيد :
عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها
ألا تراه قال " تأبد " فأعلم أنه أتى عليه أبد . ويجوز أن يكون تأبد ، أي ألفته الأوابد ، وهي الوحش .
فهذا معنى العفو ، وإليه يرجع كل ما أشبهه .
وقول القائل : عفا ، درس ، وعفا : كثر - وهو من الأضداد - ليس بشيء ، إنما المعنى ما ذكرناه ، فإذا ترك ولم يتعهد حتى خفي على مر الدهر فقد عفا ، وإذا ترك فلم يقطع ولم يجز فقد عفا . والأصل فيه كله الترك كما ذكرناه .
ومن هذا الباب قولهم : عليه العفاء ، فقال قوم هو التراب; يقال ذلك في الشتيمة . فإن كان صحيحا فهو التراب المتروك الذي لم يؤثر فيه ولم يوطأ; لأنه إذا [ ص: 59 ] وطئ ولم يترك من المشي عليه تكدد فلم يك ترابا . وإن كان العفاء الدروس فهو على المعنى الذي فسرناه . قال زهير :
تحمل أهلها عنها فبانوا على آثار من ذهب العفاء
يقال عفت الدار فهي تعفو عفاء ، والريح تعفو الدار عفاء وعفوا . وتعفت الدار تعفيا .
قال : العفو في الدار : أن يكثر التراب عليها حتى يغطيها . والاسم العفاء ، والعفو . ابن الأعرابي
ومن الباب العفو والعفو ، والجمع العفاء ، وهي الحمر الفتاء ، والأنثى عفوة والجمع عفوة . وإنما سميت بذلك لأنها تترك لا تركب ولا يحمل عليها . فأما العفوة في هذا الجمع فلا يعلم في كلام العرب واو متحركة بعد حرف متحرك في آخر البناء غير هذه ، وذلك أنهم كرهوا أن يقولوا عفاة .
قال الفراء : العفو والعفو ، والعفي والعفي : ولد الحمار ، والأنثى عفوة ، والجمع عفاء . قال :
بضرب يزيل الهام عن سكناته وطعن كتشهاق العفا هم بالنهق
ومن الباب العفاء : ما كثر من الوبر والريش ، يقال ناقة ذات عفاء ، أي كثيرة الوبر طويلته قد كاد ينسل . وسمي عفاء لأنه ترك من المرط [ ص: 60 ] والجز . وعفاء النعامة : الريش الذي علا الزف الصغار . وكذلك عفاء الطير ، الواحدة عفاءة ممدود مهموز . قال : ولا يقال للريشة عفاءة حتى يكون فيها كثافة . وقول الطرماح :
فيا صبح كمش غبر الليل مصعدا ببم ونبه ذا العفاء الموشح إذا صاح لم يخذل وجاوب صوته حماش الشوى يصدحن من كل مصدح
فذو العفاء : الريش . يصف ديكا . يقول : لم يخذل ، أي إن الديوك تجيبه من كل ناحية . وقال في وبر الناقة :
أجد موثقة كأن عفاءها
سقطان من كنفي ظليم نافر
وقال الخليل : العفاء : السحاب كالخمل في وجهه . وهذا صحيح وهو تشبيه ، إنما شبه بما ذكرناه من الوبر والريش الكثيفين . وقال أهل اللغة كلهم : يقال من الشعر عفوته وعفيته ، مثل قلوته وقليته ، وعفا فهو عاف ، وذلك إذا تركته حتى يكثر ويطول . قال الله - تعالى - : حتى عفوا ، أي نموا وكثروا . وهذا يدل على ما قلناه ، أن أصل الباب في هذا الوجه الترك .
[ ص: 61 ] قال الخليل : عفا الماء ، أي لم يطأه شيء يكدره . وهو عفوة الماء . وعفا المرعى ممن يحل به عفاء طويلا .
قال أبو زيد : عفوة الشراب : خيره وأوفره . وهو في ذلك كأنه ترك فلم يتنقص ولم يتخون .
والأصل الآخر الذي معناه الطلب قول الخليل : إن العفاة طلاب المعروف ، وهم المعتفون أيضا . يقال : اعتفيت فلانا ، إذا طلبت معروفه وفضله . فإن كان المعروف هو العفو فالأصلان يرجعان إلى معنى ، وهو الترك ، وذلك أن العفو هو الذي يسمح به ولا يحتجن ولا يمسك عليه .
قال أبو عمرو : أعطيته المال عفوا ، أي عن غير مسألة .
: اعتفاه وعفاه بمعنى واحد ، يقال للعفاة العفى . الأصمعي
. . . . . . . . . . . . لا يجدبونني إذا هر دون اللحم والفرث جازره
قال الخليل : العافية طلاب الرزق اسم جامع لها . وفي الحديث : . من أحيا أرضا ميتة فهي له ، وما أكلت العافية منها فهي له صدقة
قال : يقال ما أكثر عافية هذا الماء ، أي واردته من أنواع شتى . وقال أيضا : إبل عافية ، إذا وردت على كلأ قد وطئه الناس ، فإذا رعته لم ترض به فرفعت رؤسها عنه وطلبت غيره . ابن الأعرابي
[ ص: 62 ] وقال النضر : استعفت الإبل هذا اليبيس بمشافرها ، إذا أخذته من فوق التراب .