الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ( عفو ) العين والفاء والحرف المعتل أصلان يدل أحدهما على ترك الشيء ، والآخر على طلبه . ثم يرجع إليه فروع كثيرة لا تتفاوت في المعنى .

                                                          فالأول : العفو : عفو الله - تعالى - عن خلقه ، وذلك تركه إياهم فلا يعاقبهم ، فضلا منه . قال الخليل : وكل من استحق عقوبة فتركته فقد عفوت عنه . يقال : [ ص: 57 ] عفا عنه يعفو عفوا . وهذا الذي قاله الخليل صحيح ، وقد يكون أن يعفو الإنسان عن الشيء بمعنى الترك ، ولا يكون ذلك عن استحقاق . ألا ترى أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : عفوت عنكم عن صدقة الخيل فليس العفو هاهنا عن استحقاق ، ويكون معناه تركت أن أوجب عليكم الصدقة في الخيل .

                                                          ومن الباب العافية : دفاع الله - تعالى - عن العبد ، تقول عافاه الله - تعالى - من مكروهة ، وهو يعافيه معافاة . وأعفاه الله بمعنى عافاه . والاستعفاء : أن تطلب إلى من يكلفك أمرا أن يعفيك منه . قال الشيباني : عفا ظهر البعير ، إذا ترك لا يركب وأعفيته أنا .

                                                          ومن الباب : العفاوة : شيء يرفع من الطعام يتحف به الإنسان . وإنما هو من العفو وهو الترك ، وذلك أنه ترك فلم يؤكل . فأما قول الكميت :


                                                          وظل غلام الحي طيان ساغبا وكاعبهم ذات العفاوة أسغب



                                                          فقال قوم : كانت تعطي عفو المال فصارت تسغب لشدة الزمان . وهذا بعيد ، وإنما ذلك من العفاوة . يقول : كما يرفع لها الطعام تتحف به ، فاشتد الزمان عليهم فلم يفعلوا ذلك .

                                                          وأما العافي من المرق فالذي يرده المستعير للقدر . وسمي عافيا لأنه يترك فلم يؤكل . قال :


                                                          إذا رد عافي القدر من يستعيرها



                                                          [ ص: 58 ] ومن هذا الباب : العفو : المكان الذي لم يوطأ . قال :


                                                          قبيلة كشراك النعل دارجة     إن يهبطوا العفو لا يوجد لهم أثر



                                                          أي إنهم من قلتهم لا يؤثرون في الأرض .

                                                          وتقول : هذه أرض عفو : ليس فيها أثر فلم ترع . وطعام عفو : لم يمسه قبلك أحد ، وهو الأنف .

                                                          فأما قولهم عفا : درس ، فهو من هذا; وذلك أنه شيء يترك فلا يتعهد ولا ينزل ، فيخفى على مرور الأيام . قال لبيد :


                                                          عفت الديار محلها فمقامها     بمنى تأبد غولها فرجامها



                                                          ألا تراه قال " تأبد " فأعلم أنه أتى عليه أبد . ويجوز أن يكون تأبد ، أي ألفته الأوابد ، وهي الوحش .

                                                          فهذا معنى العفو ، وإليه يرجع كل ما أشبهه .

                                                          وقول القائل : عفا ، درس ، وعفا : كثر - وهو من الأضداد - ليس بشيء ، إنما المعنى ما ذكرناه ، فإذا ترك ولم يتعهد حتى خفي على مر الدهر فقد عفا ، وإذا ترك فلم يقطع ولم يجز فقد عفا . والأصل فيه كله الترك كما ذكرناه .

                                                          ومن هذا الباب قولهم : عليه العفاء ، فقال قوم هو التراب; يقال ذلك في الشتيمة . فإن كان صحيحا فهو التراب المتروك الذي لم يؤثر فيه ولم يوطأ; لأنه إذا [ ص: 59 ] وطئ ولم يترك من المشي عليه تكدد فلم يك ترابا . وإن كان العفاء الدروس فهو على المعنى الذي فسرناه . قال زهير :


                                                          تحمل أهلها عنها فبانوا     على آثار من ذهب العفاء



                                                          يقال عفت الدار فهي تعفو عفاء ، والريح تعفو الدار عفاء وعفوا . وتعفت الدار تعفيا .

                                                          قال ابن الأعرابي : العفو في الدار : أن يكثر التراب عليها حتى يغطيها . والاسم العفاء ، والعفو .

                                                          ومن الباب العفو والعفو ، والجمع العفاء ، وهي الحمر الفتاء ، والأنثى عفوة والجمع عفوة . وإنما سميت بذلك لأنها تترك لا تركب ولا يحمل عليها . فأما العفوة في هذا الجمع فلا يعلم في كلام العرب واو متحركة بعد حرف متحرك في آخر البناء غير هذه ، وذلك أنهم كرهوا أن يقولوا عفاة .

                                                          قال الفراء : العفو والعفو ، والعفي والعفي : ولد الحمار ، والأنثى عفوة ، والجمع عفاء . قال :


                                                          بضرب يزيل الهام عن سكناته     وطعن كتشهاق العفا هم بالنهق



                                                          ومن الباب العفاء : ما كثر من الوبر والريش ، يقال ناقة ذات عفاء ، أي كثيرة الوبر طويلته قد كاد ينسل . وسمي عفاء لأنه ترك من المرط [ ص: 60 ] والجز . وعفاء النعامة : الريش الذي علا الزف الصغار . وكذلك عفاء الطير ، الواحدة عفاءة ممدود مهموز . قال : ولا يقال للريشة عفاءة حتى يكون فيها كثافة . وقول الطرماح :

                                                          فيا صبح كمش غبر الليل مصعدا ببم ونبه ذا العفاء الموشح إذا صاح لم يخذل وجاوب صوته حماش الشوى يصدحن من كل مصدح

                                                          فذو العفاء : الريش . يصف ديكا . يقول : لم يخذل ، أي إن الديوك تجيبه من كل ناحية . وقال في وبر الناقة :


                                                              أجد موثقة كأن عفاءها
                                                          سقطان من كنفي ظليم نافر



                                                          وقال الخليل : العفاء : السحاب كالخمل في وجهه . وهذا صحيح وهو تشبيه ، إنما شبه بما ذكرناه من الوبر والريش الكثيفين . وقال أهل اللغة كلهم : يقال من الشعر عفوته وعفيته ، مثل قلوته وقليته ، وعفا فهو عاف ، وذلك إذا تركته حتى يكثر ويطول . قال الله - تعالى - : حتى عفوا ، أي نموا وكثروا . وهذا يدل على ما قلناه ، أن أصل الباب في هذا الوجه الترك .

                                                          [ ص: 61 ] قال الخليل : عفا الماء ، أي لم يطأه شيء يكدره . وهو عفوة الماء . وعفا المرعى ممن يحل به عفاء طويلا .

                                                          قال أبو زيد : عفوة الشراب : خيره وأوفره . وهو في ذلك كأنه ترك فلم يتنقص ولم يتخون .

                                                          والأصل الآخر الذي معناه الطلب قول الخليل : إن العفاة طلاب المعروف ، وهم المعتفون أيضا . يقال : اعتفيت فلانا ، إذا طلبت معروفه وفضله . فإن كان المعروف هو العفو فالأصلان يرجعان إلى معنى ، وهو الترك ، وذلك أن العفو هو الذي يسمح به ولا يحتجن ولا يمسك عليه .

                                                          قال أبو عمرو : أعطيته المال عفوا ، أي عن غير مسألة .

                                                          الأصمعي : اعتفاه وعفاه بمعنى واحد ، يقال للعفاة العفى .


                                                          . . . . . . . . . . . . لا يجدبونني     إذا هر دون اللحم والفرث جازره



                                                          قال الخليل : العافية طلاب الرزق اسم جامع لها . وفي الحديث : من أحيا أرضا ميتة فهي له ، وما أكلت العافية منها فهي له صدقة .

                                                          قال ابن الأعرابي : يقال ما أكثر عافية هذا الماء ، أي واردته من أنواع شتى . وقال أيضا : إبل عافية ، إذا وردت على كلأ قد وطئه الناس ، فإذا رعته لم ترض به فرفعت رؤسها عنه وطلبت غيره .

                                                          [ ص: 62 ] وقال النضر : استعفت الإبل هذا اليبيس بمشافرها ، إذا أخذته من فوق التراب .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية