الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ( عقب ) العين والقاف والباء أصلان صحيحان : أحدهما يدل على تأخير شيء وإتيانه بعد غيره . والأصل الآخر يدل على ارتفاع وشدة وصعوبة .

                                                          فالأول قال الخليل : كل شيء يعقب شيئا فهو عقيبه ، كقولك خلف يخلف ، بمنزلة الليل والنهار إذا مضى أحدهما عقب الآخر . وهما عقيبان ، كل واحد منهما [ ص: 78 ] عقيب صاحبه . ويعقبان ، إذا جاء الليل ذهب النهار ، فيقال عقب الليل النهار وعقب النهار الليل . وذكر ناس من أهل التفسير في قوله - تعالى - : له معقبات من بين يديه ومن خلفه قال : يعني ملائكة الليل والنهار ، لأنهم يتعاقبون . ويقال إن العقيب الذي يعاقب آخر في المركب ، وقد أعقبته ، إذا نزلت ليركب . ويقولون : عقب علي في تلك السلعة عقب ، أي أدركني فيها درك . والتعقبة : الدرك .

                                                          ومن الباب : عاقبت الرجل معاقبة وعقوبة وعقابا . واحذر العقوبة والعقب . وأنشد :


                                                          فنعم والي الحكم والجار عمر لين لأهل الحق ذو عقب ذكر



                                                          ويقولون : إنها لغة بني أسد . وإنما سميت عقوبة لأنها تكون آخرا وثاني الذنب . وروي عن [ ابن ] الأعرابي : المعاقب الذي أدرك ثأره . وإنما سمي بذلك للمعنى الذي ذكرناه . وأنشد :


                                                          ونحن قتلنا بالمخارق فارسا     جزاء العطاس لا يموت المعاقب



                                                          أي أدركنا بثأره قدر ما بين العطاس والتشميت . ومثله :

                                                          [ ص: 79 ]

                                                          فقتل بقتلانا وجز بجزنا     جزاء العطاس لا يموت من اتأر

                                                          قال الخليل : عاقبة كل شيء : آخره ، وكذلك العقب ، جمع عقبة . قال :


                                                          كنت أخي في العقب النوائب



                                                          ويقال : استعقب فلان من فعله خيرا أو شرا ، واستعقب من أمره ندما ، وتعقب أيضا . وتعقبت ما صنع فلان ، أي تتبعت أثره . ويقولون : ستجد عقب الأمر كخير أو كشر ، وهو العاقبة .

                                                          ومن الباب قولهم للرجل المنقطع الكلام : لو كان له عقب تكلم ، أي لو كان عنده جواب . و قالوا في قول عمر :

                                                          فلا مال إلا قد أخذنا عقابه ولا دم إلا قد سفكنا به دما

                                                          قال : عقابه ، أراد عقباه وعقبانه . ويقال : فلان وفلان يعتقبان فلانا ، إذا تعاونا عليه .

                                                          قال الشيباني : إبل معاقبة : ترعى الحمض مرة ، والبقل أخرى . ويقال : العواقب من الإبل ما كان في العضاه ثم عقبت منه في شجر آخر . قال ابن الأعرابي : العواقب من الإبل التي تداخل الماء تشرب ثم تعود إلى المعطن ثم تعود إلى الماء وأنشد يصف إبلا :


                                                          روابع خوامس عواقب



                                                          وقال أبو زياد : المعقبات : اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل التي تعترك على [ ص: 80 ] الحوض ، فإذا انصرفت ناقة دخلت مكانها أخرى ، والواحدة معقبة . قال :


                                                          الناظرات العقب الصوادف



                                                          وقالوا : وعقبة الإبل : أن ترعى الحمض [ مرة ] والخلة أخرى . وقال ذو الرمة :


                                                          ألهاه آء وتنوم وعقبته من     لائح المرو والمرعى له عقب



                                                          قال الخليل : عقبت الرجل ، أي صرت عقبه أعقبه عقبا . ومنه سمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " العاقب " لأنه عقب من كان قبله من الأنبياء - عليهم السلام - . وفعلت ذلك بعاقبة ، كما يقال بآخرة . قال :


                                                          أرث حديث الوصل من أم معبد     بعاقبة وأخلفت كل موعد



                                                          وحكي عن الأصمعي : رأيت عاقبة من الطير ، أي طيرا يعقب بعضها بعضا ، تقع هذه مكان التي قد كانت طارت قبلها . قال أبو زيد : جئت في عقب الشهر وعقبانه ، أي بعد مضيه ، العينان مضمومتان . قال : وجئت في عقب الشهر وعقبه و في عقبه . قال :


                                                          [ وقد ] أروح عقب الإصدار     مخترا مسترخي الإزار



                                                          [ ص: 81 ] قال الخليل : جاء في عقب الشهر أي آخره; وفي عقبه ، إذا مضى ودخل شيء من الآخر . ويقال : أخذت عقبة من أسيري ، وهو أن تأخذ منه بدلا . قال :


                                                          لا بأس إني قد علقت بعقبة



                                                          وهذا عقبة من فلان أي أخذ مكانه . وأما قولهم عقبة القمر . . . . . . . .

                                                          ومن الباب قولهم : عقبة القدر ، وهو أن يستعير القدر فإذا ردها ترك في أسفلها شيئا . وقياس ذلك أن يكون آخر ما في القدر ، أو يبقى بعد أن يغرف منها . قال ابن دريد :


                                                          إذا عقب القدور يكن مالا     تحب حلائل الأقوام عرسي



                                                          وقال الكميت :


                                                          . . . . . . . . . . . . . . . ولم     يكن لعقبة قدر المستعيرين معقب

                                                          ويقولون : تصدق بصدقة ليست فيها تعقبة ، أي استثناء . وربما قالوا : عاقب بين رجليه . إذا راوح بينهما ، اعتمد مرة على اليمنى ومرة على اليسرى .

                                                          ومما ذكره الخليل أن المعقاب : المرأة التي تلد ذكرا بعد أنثى ، وكان ذلك عادتها . وقال أبو زيد : ليس لفلان عاقبة ، يعني عقبا . ويقال عقب للفرس جري بعد جري ، أي شيء بعد شيء . قال امرؤ القيس :

                                                          [ ص: 82 ]

                                                          على العقب جياش كأن اهتزامه     إذا جاش منه حميه غلي مرجل



                                                          وقال الخليل : كل من ثنى شيئا فهو معقب قال لبيد :


                                                          حتى تهجر للرواح وهاجها     طلب المعقب حقه المظلوم

                                                          قال ابن السكيت : المعقب : الماطل ، وهو هاهنا المفعول به ، لأن المظلوم هو الطالب ، كأنه قال : طلب المظلوم حقه من ماطله . وقال الخليل : المعنى كما يطلب المعقب المظلوم حقه ، فحمل المظلوم على موضع المعقب فرفعه .

                                                          وفي القرآن : ولى مدبرا ولم يعقب ، أي لم يعطف . والتعقيب ، غزوة بعد غزوة . قال طفيل :


                                                          وأطنابه أرسان جرد كأنها     صدور القنا من بادئ ومعقب



                                                          ويقال : عقب فلان في الصلاة ، إذا قام بعد ما يفرغ الناس من الصلاة في مجلسه يصلي .

                                                          ومن الباب عقب القدم : مؤخرها ، وفي المثل : " ابنك من دمى عقبيك " ، وكان أصل ذلك في عقيل بن مالك ، وذلك أن كبشة بنت عروة الرحال تبنته ، فعرم عقيل على أمه يوما فضربته ، فجاءتها كبشة تمنعها ، فقالت : ابني ابني ، فقالت القينية - وهي أمة من بني القين - : " ابنك من دمى عقبيك " ، أرى ابنك هو الذي نفست به وولدته حتى أدمى النفاس عقبيك ، لا هذا .

                                                          [ ص: 83 ] ومن كلامهم في العقوبة والعقاب ، قال امرؤ القيس :


                                                          وبالأشقين ما كان العقاب



                                                          ويقال : أعقب فلان ، أي رجع ، والمعنى أنه جاء عقيب مضيه . قال لبيد :


                                                          فجال ولم يعقب بغضف كأنها     دقاق الشعيل يبتدرن الجعائلا



                                                          قال الدريدي : المعقب : نجم يعقب نجما آخر ، أي يطلع بعده . قال :

                                                          كأنها بين السجوف معقب

                                                          ومن الباب قولهم : عليه عقبة السرو والجمال ، أي أثره . قال : وقوم عليهم عقبة السرو . . . . . وإنما قيل ذلك لأن أثر الشيء يكون بعد الشيء .

                                                          ومما يتكلمون به في مجرى الأمثال قولهم : " من أين جاءت عقبك " أي من أين جئت . و " فلان موطأ العقب " أيكثير الأتباع . ومنه حديث عمار : " اللهم إن كان كذب فاجعله موطأ العقب " . دعا أن يكون سلطانا يطأ الناس عقبه ، أي يتبعونه ويمشون وراءه ، أو يكون ذا مال فيتبعونه لماله . قال :

                                                          عهدي بقيس وهم خير الأمم

                                                          لا يطؤون قدما على قدم



                                                          [ ص: 84 ] أي إنهم قادة يتبعهم الناس ، وليسوا أتباعا يطؤون أقدام من تقدمهم .

                                                          وأما قول النخعي : " المعتقب ضامن لما اعتقب " فالمعتقب : الرجل يبيع الرجل شيئا فلا ينقده المشتري الثمن ، فيأبى البائع أن يسلم إليه السلعة حتى ينقده ، فتضيع السلعة عند البائع . يقول : فالضمان على البائع . وإنما سمي معتقبا لأنه أتى بشيء بعد البيع ، وهو إمساك الشيء .

                                                          ويقولون : اعتقبت الشيء ، أي حبسته .

                                                          ومن الباب : الإعقابة : سمة مثل الإدبارة ، ويكون أيضا جلدة معلقة من دبر الأذن .

                                                          وأما الأصل الآخر فالعقبة : طريق في الجبل ، وجمعها عقاب . ثم رد إلى هذا كل شيء فيه علو أو شدة . قال ابن الأعرابي : البئر تطوى فيعقب وهي أواخرها بحجارة من خلفها . يقال أعقبت الطي . وكل طريق يكون بعضه فوق بعض فهي أعقاب .

                                                          قال الكسائي : المعقب : الذي يعقب طي البئر : أن يجعل الحصباء ، والحجارة الصغار فيها وفي خللها ، لكي يشد أعقاب الطي . قال :


                                                          شدا إلى التعقيب من ورائها



                                                          قال أبو عمرو : العقاب : الخزف الذي يدخل بين الآجر في طي البئر لكي تشتد .

                                                          وقال الخليل : العقاب مرقى في عرض جبل ، وهو ناشز . ويقال : العقاب : [ ص: 85 ] حجر يقوم عليه الساقي ، ويقولون إنه أيضا المسيل الذي يسيل ماؤه إلى الحوض . وينشد :


                                                          كأن صوت غربها إذا انثعب     سيل على متن عقاب ذي حدب


                                                          ومن الباب : العقب : ما يعقب به الرماح والسهام . قال : وخلاف ما بينه وبين العصب أن العصب يضرب إلى صفرة ، والعقب يضرب إلى البياض ، وهو أصلبهما وأمتنهما . والعصب لا ينتفع به . فهذا يدل على ما قلناه ، أن هذا الباب قياسه الشدة .

                                                          ومن الباب ما حكاه أبو زيد : عقب العرفج يعقب أشد العقب . وعقبه أن يدق عوده وتصفر ثمرته ، ثم ليس بعد ذلك إلا يبسه .

                                                          ومن الباب : العقاب من الطير ، سميت بذلك لشدتها وقوتها ، وجمعه أعقب وعقبان ، وهي من جوارح الطير . ويقال عقاب عقبناة ، أي سريعة الخطفة . قال :


                                                          عقاب عقبناة كأن وظيفها     وخرطومها الأعلى بنار ملوح



                                                          خرطومها : منسرها . ووظيفها : ساقها . أراد أنهما أسودان .

                                                          [ ص: 86 ] ثم شبهت الراية بهذه العقاب ، كأنها تطير كما تطير .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية