الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ( عروى ) العين والراء والحرف المعتل أصلان صحيحان متباينان يدل أحدهما على ثبات وملازمة وغشيان ، والآخر يدل على خلو ومفارقة .

                                                          فالأول قولهم : عراه أمر ، إذا غشيه وأصابه ; وعراه البرد . ويقولون : " إذا طلع السماك ، فعند ذلك يعروك ما عناك ، من البرد الذي يغشاك " . وعراه الهم واعتراه . والعرواء : قرة تأخذ المحموم .

                                                          ومن الباب العروة عروة الكوز ونحوه ، والجمع عرى . وعريت الشيء : اتخذت له عروة . قال لبيد :

                                                          فخمة ذفراء ترتى بالعرى قردمانيا وتركا كالبصل

                                                          وقال آخر : " والله لو عريت في علباوي ما خضعت لك " ، أي لو جعلت فيهما عروتين . وإنما سميت عروة لأنها تمسك وتلزمها الإصبع .

                                                          ومن الباب العروة ، وهو من النبات شجر تبقى له خضرة في الشتاء ، تتعلق به الإبل حتى يدرك الربيع ، فهي العروة والعلقة ، وقال مهلهل :


                                                          قتل الملوك وسار تحت لوائه شجر العرى وعراعر الأقوام



                                                          [ ص: 296 ] وقال بعضهم : العروة : الشجر الملتف . وقال الفراء : العروة من الشجر : ما لا يسقط ورقه . وكل هذا راجع إلى قياس الباب ، لأن الماشية تتعلق به فيكون كالعروة وسائر ما ذكرناه .

                                                          وربما سموا العلق النفيس عروة ، كما يسمى علقا ، والقياس فيهما واحد . ويقال : إن عروة الإسلام : بقيته ، كقولهم : بأرض بني فلان عروة ، أي بقية من كلأ . وهذا عندي كلام فيه جفاء ; لأن الإسلام - والحمد لله - باق أبدا ، وإنما عرى الإسلام شرائعه التي يتمسك بها ، كل شريعة عروة . قال الله - تعالى - عند ذكر الإيمان : فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها .

                                                          فأما العري فهي الريح الباردة ، وهي عرية أيضا . وسميت لأنها تعرو وتعتري ، أي تغشى . قال ذو الرمة :


                                                          وهل أحطبن القوم وهي عرية     أصول ألاء في ثرى عمد جعد



                                                          ويقولون : " أهلك فقد أعريت " ، أي غابت الشمس وهبت عريا .

                                                          وأما الأصل الآخر فخلو الشيء من الشيء . من ذلك العريان ، يقال منه : قد عري من الشيء يعرى ، وجمع عار عراة . قال أبو دواد :


                                                          فبتنا عراة لدى مهرنا     تنزع من شفتيه الصفارا



                                                          أي متجردين ، كما [ يقال ] تجرد للأمر ، إذا جد فيه . ويقولون : إنه من العرواء ، أي كأنهم ينتفضون من البرد . ويقال من الأول : ما أحسن عرية هذه [ ص: 297 ] الجارية ، أي معراها وما تجرد منها . وعريتها : جردتها . ويقال : المعاري : اليدان والرجلان والوجه ، لأن ذلك باد أبدا . قال أبو كبير :


                                                          متكورين على المعاري بينهم     ضرب كتعطاط المزاد الأثجل



                                                          ويقال : اعروريت الفرس ، إذا ركبته عريا [ ليس ] بين ظهره وبينك شيء . وأنشد :


                                                          واعرورت العلط العرضي تركضه     أم الفوارس بالدئداد والربعه



                                                          ويقال : فرس عري ورجل عريان .

                                                          ومن الباب : العراء : كل شيء أعريته من سترته . ويقال : استر عن العراء . أما العرى مقصور فما ستر شيئا من شيء . تقول : تركناه في عرى الحائط . وهذه الكلمة تصلح أن تكون من الباب الأول .

                                                          ومن الباب الثاني : أعرى القوم صاحبهم ، إذا تركوه وذهبوا عنه .

                                                          [ ص: 298 ] ومن الباب العراء : الفضاء ، ويقال إنه مذكر . تقول : انتهينا إلى عراء من الأرض واسع . وأعراء الأرض : ما ظهر من متونها وظهورها . ويقولون لامرأة الرجل : النجي العريان ، أي أنه يناجيها في الفراش عريانة . قال :


                                                          ليس النجي الذي يأتيك مؤتزرا     مثل النجي الذي يأتيك عريانا



                                                          ويقال للفرس الطويل القوائم عريان ، وهو من الباب ، يراد أن قوائمه متجردة طويلة .

                                                          وأما العرية من النخل وما جاء في الحديث أنه - عليه الصلاة والسلام - : نهى عن المزابنة ورخص في العرايا فإن قياسه قياس الذي ذكرناه في هذا الأصل الثاني ، وهو خلو الشيء عن الشيء . ثم اختلف الفقهاء في صورتها ، فقال قوم هي النخلة يعريها صاحبها رجلا محتاجا ، وذلك أن يجعل له ثمرة عامها ، فرخص لرب النخل أن يبتاع ثمر تلك النخلة من المعرى بتمر ، لموضع حاجته . وقال بعضهم : بل هو الرجل يكون له نخلة وسط نخل كثير لرجل آخر ، فيدخل رب النخلة إلى نخلته فربما كان صاحب النخل الكثير يؤديه دخوله إلى نخله ، فرخص لصاحب النخل الكثير أن يشتري ثمر تلك النخلة من صاحبها قبل أن يجده بتمر لئلا يتأذى به .

                                                          قال أبو عبيد : والتفسير الأول أجود ، لأن هذا ليس فيه إعراء ، إنما هي نخلة [ ص: 299 ] يملكها ربها فكيف تسمى عرية . ومما يبين ذلك قول شاعر الأنصار :


                                                          ليست بسنهاء ولا رجبية     ولكن عرايا في السنين الجوائح



                                                          ومنه حديث آخر ، أنه كان إذا بعث الخراص قال لهم : خففوا في الخرص فإن في المال العرية والوصية .

                                                          قال الأصمعي : استعرى الناس في كل وجه ، إذا أكلوا الرطب . قال : وهو مأخوذ من العرايا .

                                                          فأما الخليل فروي عنه كلام بعضه من الأول وبعضه من الثاني ، إلا أن جملة قوله دليل على ما ذكرناه ، من أنه قياس سائر الباب ، وأنه خلو شيء من شيء .

                                                          قال الخليل : النخلة العرية : التي إذا عرضت على البيع ثمرها عريت منها نخلة ، أي عزلت عن المساومة . والجمع العرايا ، والفعل منه إعراء ، وهو أن يجعل ثمرها لمحتاج عامها ذلك .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية