الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        [ ص: 206 ] باب سياق قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، وكيف كانت الوقعة.

                                        أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، ببغداد قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن عتاب، قال: حدثنا القاسم بن عبد الله بن المغيرة، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، عن عمه، موسى بن عقبة ح.

                                        وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ في المغازي قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل، قال: حدثنا جدي، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر ، قال: حدثنا محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب، وهذا لفظ حديث إسماعيل، عن عمه موسى بن عقبة ، قال: ورجعت قريش فاستجلبوا من استطاعوا من مشركي العرب، وسار أبو سفيان بن حرب في جمع قريش، وذلك في شوال من العام المقبل من وقعة بدر، حتى طلعوا من بئر الحماوين، ثم نزلوا ببطن الوادي الذي قبل أحد، وكان رجال من المسلمين لم يشهدوا بدرا ندموا على ما فاتهم من سابقة بدر، وتمنوا لقاء العدو وليبلوا ما أبلى إخوانهم يوم بدر، فلما نزل أبو سفيان والمشركون بأصل أحد فرح المسلمون الذين لم يشهدوا بدرا بقدوم العدو عليهم، وقالوا: قد ساق الله إلينا بأمنيتنا، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري ليلة الجمعة رؤيا، فأصبح فجاءه نفر من أصحابه فقال: " رأيت [ ص: 207 ] البارحة في منامي بقرا والله خير - وفي رواية ابن فليح : بقرا تذبح - ورأيت سيفي ذا الفقار انفصم من عند ظبته - أو قال: به فلول فكرهته، وهما مضببتان - ورأيت أني في درع حصينة، وأني مردف كبشا"، فلما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤياه قالوا: يا رسول الله، ماذا أولت رؤياك؟ قال: "أولت البقر الذي رأيت نفرا فينا وفي القوم، وكرهت ما رأيت بسيفي" ، ويقول رجال: وكان الذي رأى بسيفه الذي أصاب وجهه، فإن العدو أصابوا وجهه يومئذ، وفصموا رباعيته، وخرقوا شفته، يزعمون أن الذي رماه عتبة بن أبي وقاص، وكان البقر من قتل يومئذ من المسلمين، وقال: " أولت الكبش أنه كبش كتيبة العدو فقتله - وفي رواية ابن فليح : "يقتله الله" - وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا واجعلوا الذراري في الآطام، فإن دخل علينا القوم في الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت"، وكانوا قد شكوا أزقة المدينة بالبنيان حتى كانت كالحصن، فقال الذين لم يشهدوا بدرا: كنا يا نبي الله نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه الله إلينا وقرب المسير.

                                        وقال رجال من الأنصار: متى نقاتلهم يا نبي الله لم نقاتلهم عند شعبنا؟ وقال رجال: ماذا نمنع إذا لم نمنع الحرث يزرع؟ وقال رجال قولا صدقوا به ومضوا عليه، منهم: حمزة بن عبد المطلب قال: والذي أنزل عليك الكتاب لنجالدنهم.

                                        وقال يعمر بن مالك بن ثعلبة، وهو أحد بني سالم: يا نبي الله، لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بم؟" قال: بأني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقت" ، فاستشهد يومئذ.

                                        وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو، ولم يتناهوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه، ولو رضوا بالذي أمرهم به كان ذلك، ولكن غلب القضاء [ ص: 208 ] والقدر، وعامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدرا، قد علموا الذي سبق لأصحاب بدر من الفضيلة، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة وعظ الناس وذكرهم، وأمرهم بالجد والجهاد، ثم انصرف من خطبته وصلاته فدعا باللأمة فلبسها، ثم أذن في الناس بالخروج.

                                        فلما رأى ذلك رجال من ذوي الرأي قالوا: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمكث بالمدينة، فإن دخل علينا العدو قاتلناهم في الأزقة، وهو أعلم بالله وما يريد ويأتيه الوحي من السماء، ثم أشخصناه: يا نبي الله، امكث كما أمرتنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب وآذن بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل، وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس، إذا لقيتم العدو انظروا ما آمركم به فافعلوه" ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون فسلكوا على البدائع، وهم ألف رجل، والمشركون ثلاثة آلاف، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بأحد، ورجع عنه عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلاثمائة، فبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة، فقال كعب بن مالك الأنصاري:


                                        إنا بهذا الجذع لو كان أهله سوانا لقد ساروا بليل فأقشعوا     جلاد على ريب الحوادث لا ترى
                                        على هالك عينا لنا الدهر تدمع [ ص: 209 ]     ثلاثة آلاف ونحن نصية
                                        ثلاث ميين إن كثرنا وأربع     فراحوا سراعا موجفين كأنهم
                                        غمام هراقت ماءها الريح تقلع     ورحنا وأخرانا بطاء كأننا
                                        أسود على لحم ببيشة ظلع

                                        فلما رجع عبد الله بن أبي بالثلاثمائة، سقط في أيدي الطائفتين من المسلمين، وهمتا أن تقتتلا، وهما: بنو حارثة وبنو سلمة كما يقال، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة التي قبل أحد، وتعبأ الفريقان للقتال، وجعل المشركون على خيلهم خالد بن الوليد بن المغيرة، ومعهم مائة فرس، وليس مع المسلمين فرس، وحامل لواء المشركين من بني عبد الدار، واشتكى صاحب لوائهم طلحة بن عثمان أخو شيبة بن عثمان، وكانت لهم الحجابة والندوة واللواء، فقال أبو سفيان بن حرب: إن اللواء ضاع يوم بدر حتى قتل حوله من قد علمتم، وأرى أن أعارضهم بلواء آخر، فقال بنو عبد الدار والأحلاف: إن شئتم فارفعوا لواء آخر، ولكن لا يرفعه إلا رجل من بني عبد الدار، فقال أبو سفيان: بل عليكم بلوائكم فاصبروا عنده.

                                        وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين رجلا من الرماة فجعلهم نحو خيل العدو، وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير، وقال لهم: "أيها الرماة، إذا أخذنا منازلنا من القتال فإن رأيتم خيل المشركين تحركت وانهزم أعداء الله، فلا تتركوا منازلكم، إني أتقدم إليكم أن لا يفارقن رجل منكم مكانه واكفوني الخيل" ، فوعز إليهم فأبلغ، ومن نحوهم كان الذي نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ والذي أصابه [ ص: 210 ] .

                                        فلما عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه عهده في القتال، وكان حامل لواء المهاجرين رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنا عاصم إن شاء الله لما معي، فقال له طلحة - يعني طلحة بن عثمان - : هل لك يا عاصم في المبارزة؟ قال: نعم، فبدره ذلك الرجل فضرب بالسيف على رأس طلحة حتى وقع السيف في لحيته فقتله، فكان قتل صاحب لواء المشركين تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني مردف كبشا، فلما صرع صاحب اللواء انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وصاروا كتائب متفرقة، فجاسوا العدو ضربا حتى أجهضوهم عن أثقالهم، وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلولة، وحمل المسلمون فنهكوهم قتلا، فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله عز وجل قد فتح لإخوانهم، قالوا: والله ما نجلس هاهنا لشيء، قد أهلك الله العدو، وإخواننا في عسكر المشركين، وقال طوائف منهم: على ما نصف وقد هزم الله العدو، فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا، وعصوا الرسول، فأوجفت الخيل فيهم قتلا، وكان عامتهم في العسكر، فلما أبصروا ذلك الرجال المتفرقة أن الخيل قد فعلت ما فعلت اجتمعوا وأقبلوا، وصرخ صارخ: أخراكم أخراكم، قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقط في أيدي المسلمين فقتل منهم من قتل، وأكرمهم الله بأيدي المشركين، وأصعد الناس في الشعب لا يلوون على أحد، وثبت الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم حين انكشف عنه من انكشف من أصحابه، وهو يدعوهم في أخراهم، حتى جاءه من جاءه منهم إلى قريب من المهراس في الشعب، فلما فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رجل منهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل فارجعوا إلى قومكم فيؤمنونكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فإنهم داخلون البيوت، وقال رجل منهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا، وقال آخرون: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، أفلا تقاتلون [ ص: 211 ] عن دينكم، وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله شهداء؟ منهم: أنس بن النضر، شهد له بها سعد بن معاذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال: أحد بني قشير الذي قال: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا.

                                        ومضى النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس أصحابه، فإذا المشركون نحو وجهه على طريقه، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبلوه قال: "اللهم إن تشأ لا يغلبك أحد في الأرض" ، وقال: "اللهم إن تشأ لا تعبد" ، فانصرف المشركون والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه، مصعدا في الشعب معه عصابة صبروا معه، منهم: طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وبايعوه على الموت، وجعلوا يسترونه بأنفسهم ويقاتلون معه حتى قتلوا، إلا ستة نفر أو سبعة، وهم مع ذلك يمشون حول المهراس، ويقال: كان كعب بن مالك أول من عرف عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين فقد من وراء المغفر فنادى بصوته الأعلى: الله أكبر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه - زعموا رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن اسكت، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه، وكسرت رباعيته.

                                        وكان أبي بن خلف قال حين افتدى: والله إن عندي لفرسا أعلفها كل يوم فرق ذرة، ولأقتلن عليها محمدا، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفته فقال: "بل أنا أقتله إن شاء الله" .

                                        فأقبل أبي مقنعا في الحديد على فرسه تلك يقول: لا نجوت إن نجا محمد، فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله.

                                        قال موسى بن عقبة : قال سعيد بن المسيب : فاعترض له رجال من المؤمنين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا طريقه، واستقبله مصعب بن عمير أخو [ ص: 212 ] بني عبد الدار يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة البيضة والدرع، فطعنه بحربته، فوقع أبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم.

                                        قال سعيد: فكسر ضلعا من أضلاعه، ففي ذلك نزل: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا: ما جزعك، إنما هو خدش، فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أنا أقتل أبيا" ، ثم قال: والذي نفسي بيده، لو كان هذا الذي بي بأهل المجاز لماتوا أجمعون، فمات أبي قبل أن يقدم مكة، فلما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ونظروا إليه، ومعه: طلحة، والزبير، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة، أخو بني النجار، ظن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النفر من عدوهم، فوضع أحدهم سهما على كبد قوسه، فأراد أن يرمي، فلما تكلموا وناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفوه، فكأنه لم يصبهم بلاء في أنفسهم قط حين عرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما هم كذلك إذ عرض لهم الشيطان نفسه ووسوسته وتحزينه حين أبصروا عدوهم قد انفرجوا عنهم، فبينما هم كذلك يذكرون قتلاهم وإخوانهم ويسأل بعضهم عن حميمه، فيخبر بعضهم بعضا بقتلاهم، وقال: اشتد حزنهم، أدبر الله عليهم المشركين وغمهم بهم، ليذهب بذلك الحزن عنهم، فإذا عدوهم فوق الجبل قد علوهم، فنسوا عند ذلك الحزن والهموم على إخوانهم، ثم أنزل الله عز وجل على طائفة من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم ، كما قال الله عز وجل: وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا قال الله عز وجل: قل لو كنتم في بيوتكم إلى قوله: عليم بذات الصدور ، وكانا غمين: فهذا الغم الآخر، والغم [ ص: 213 ] الأول حين أصعدوا في الشعب منهزمين، فأنساهم الهزيمة ما يخافون من طلب العدو وقتالهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا اليوم" ، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وندب أصحابه، فانتدب منهم عصابة فأصعدوا في الشعب حتى كانوا هم والعدو على السواء، فراموهم بالنبل، وطاعنوهم حتى أهبطوهم عن الجبل، وانكفى المشركون عنهم إلى قتلى المسلمين فمثلوا بهم: يقطعون الآذان، والأنوف، والفروج، ويبقرون البطون، وهم يظنون أنهم قد أصابوا النبي صلى الله عليه وسلم وأشراف أصحابه، ثم إنهم قد اجتمعوا وصفوا مقاتلتهم، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، إلا أنكم ستجدون في قتلاكم شيئا من مثلة، وإني لم آمر بذلك، ولم أكرهه، ثم قال: اعل هبل، يفخر بآلهته، فقال عمر: اسمع يا رسول الله ما يقول عدو الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ناده فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء: قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار"، قالوا: إن لنا العزى، ولا عزى لكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله مولانا، ولا مولى لكم" ، ثم نادوا محمدا باسمه، فلما علموا أنه حي، ونادوا رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرافا فعلموا أنهم أحياء، كبتهم الله فانكفؤوا إلى أثقالهم، لا يدري المسلمون ما يريدون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رأيتموهم ركبوا وجعلوا الأثقال تتبع آثار الخيل فهم يريدون أن يدنوا من البيوت والآطام التي فيها الذراري والنساء، وأقسم بالله لئن فعلوا لأواقعنهم في جوفها، وإن كانوا ركبوا الأثقال وجنبوا الخيل فهم يريدون الفرار" ، فلما أدبروا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في آثارهم، فقال: "اعلم لنا أمرهم" ، فانطلق سعد يسعى حتى علم علمهم، ثم رجع فقال: رأيت خيلهم تضرب بأذنابها مجنوبة مدبرة، ورأيت القوم قد تحملوا على الأثقال سائرين.

                                        فطابت أنفس [ ص: 214 ] القوم لذهاب العدو، وانتشروا يتبعون قتلاهم، فلم يجدوا قتيلا إلا قد مثلوا به، إلا حنظلة بن أبي عامر، كان أبوه مع المشركين فترك له، وزعموا أن أباه وقف عليه قتيلا، فدفع صدره برجله ثم قال: ذنبان أصبتهما، قد تقدمت إليك في مصرعك هذا يا دبيس، ولعمرو الله إن كنت لواصلا للرحم، برا بالوالد.

                                        ووجدوا حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم قد بقر بطنه، وحملت كبده، احتملها وحشي، وهو قتله، يذهب بكبده إلى هند بنت عتبة في نذر نذرته حين قتل أباها يوم بدر، وأقبل المسلمون على قتلاهم يدفنونهم فدفن حمزة في نمرة كانت عليه، إذا رفعت إلى رأسه بدت قدماه، وإذا أنزلت إلى رجليه بدا وجهه، فجعلوا أعوادا من شجر وحجارة فوضعوها على قدميه وغطوا وجهه.

                                        قال موسى: قال ابن شهاب: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لدفن الشهداء قال: "زملوهم بجراحهم، فإنه ليس كلم يكلم في الله إلا وهو يأتي يوم القيامة يدمى، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك" ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا الشهيد على هذا يوم القيامة" ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفنون على عينيه، ولم يغسلهم ولم يصل على أحد منهم كما يصلي على الموتى، ولم يدفنهم في غير ثيابهم التي قتلوا فيها.

                                        قال، وهم يدفنون الرهط في الحفرة الواحدة: "أي هؤلاء كان أكثر أخذا للقرآن؟" فإذا أشير إلى الرجل منهم قدمه في اللحد قبل أصحابه، حتى فرغ من دفنهم.

                                        وخرج نساء من المهاجرات والأنصار يحملن على ظهورهن الماء والطعام، وخرجت فيهم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأت أباها والذي به من الدماء اعتنقته، وجعلت تمسح الدماء عن وجهه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله، واشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله" [ ص: 215 ] .

                                        وقال سهل بن سعد الساعدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" .

                                        قال موسى بن عقبة : قال ابن شهاب : رمى يومئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني الحارث بن عبد مناة، يقال له: ابن قمئة، ويقال: بل رماه عتبة بن أبي وقاص، قال: وسعى علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى المهراس وقال لفاطمة: أمسكي هذا السيف غير ذميمة، فأتى بماء في مجنة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشرب منه فوجد له ريحا فقال: "هذا ماء آجن" ، فمضمض منه، وغسلت فاطمة عن أبيها، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف علي مخضبا دما قال: "إن تكن أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف" ، ثم قال: " أخبروني عن الناس: ما فعلوا، وأين ذهبوا؟ " قالوا: كفر عامتهم، فقال: إن المشركين لم يصيبوا منا مثلها حتى نبيحهم ثم أقبلوا إلى دورهم، وقد كان أبو سفيان ناداهم والمشركون حين ارتحلوا أن موعدكم الموسم موسم بدر، وهي سوق كانت تقوم ببدر كل عام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قولوا لهم: نعم، قد فعلنا".

                                        قال أبو سفيان: فذلك الموعد.


                                        وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عرض يومئذ سيفه فقال: "من يأخذ هذا بحقه؟" قالوا: وما حقه؟ قال: "يضرب به إذا لقي العدو" ، فقال عمر - زعموا - : أنا آخذه، فأعرض عنه، ثم عرضه الثانية، فقال الزبير: أنا آخذه، فأعرض عنه، فوجد عمر والزبير في أنفسهما من ذلك، ثم عرضه الثالثة بذلك الشرط، فقال أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة: أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فدفعه إليه، فصدق به حين لقي العدو، وأعطى السيف بحقه.

                                        وزعموا أن كعب بن مالك قال: كنت فيمن خرج من المسلمين، فلما رأيت مثل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين ويقول: استوسقوا كما تستوسق جرد الغنم، قال: وإذا [ ص: 216 ] رجل من المسلمين قائم ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة، قال: فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف بلغت وركه، وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه فقال: كيف ترى يا كعب، أنا أبو دجانة.

                                        فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم أزقة المدينة إذا النوح والبكاء في الدور، فقال: "ما هذا؟" قالوا: هذه نساء الأنصار يبكين قتلاهم، قال: وأقبلت امرأة تحمل ابنها وزوجها على بعير قد ربطتهما بحبل، ثم ركبت بينهما، وحمل منهم قتلى فدفنوا في مقابر المدينة، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حملهم وقال: "واروهم حيث أصيبوا" ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع البكاء: "لكن حمزة لا بواكي له" ، واستغفر له، فسمع ذلك سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن رواحة، فمشوا في دورهم، فجمعوا كل نائحة وباكية كانت بالمدينة، فقالوا: والله لا تبكين قتلى الأنصار حتى تبكين عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ذكر أن لا بواكي له بالمدينة، وزعموا أن الذي جاء بالنوائح عبد الله بن رواحة، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم البكاء قال: "ما هذا؟" فأخبر بما فعلت الأنصار بنسائهم، فاستغفر لهم وقال لهم خيرا، وقال: "ما هذا أردت، وما أحب البكاء" ، ونهى عنه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من عمل الجاهلية لن تتركهن أمتي: النياحة على الموتى، والطعن في النسب، وقيل هذا المطر بنوء كذا وكذا، وليس بنوء، إنما هو عطاء الله ورزقه".

                                        وأخذ المنافقون عند بكاء المسلمين في المكر والتفريق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحزين المؤمنين، وظهر غش اليهود، وفارت المدينة بالنفاق فور المرجل [ ص: 217 ] ، وأظهروا النفاق والغش عند بكاء المسلمين ما كانوا مستخفين، وقالت اليهود: لو كان نبيا ما ظهروا عليه، ولا أصيب منه ما أصيب، ولكنه طالب ملك تكون له الدولة مرة وعليه مرة، وكذلك أهل طلب الدنيا بغير نبوة، وقال المنافقون نحو قولهم، وقالوا للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصابوا الذي أصابوا منكم.

                                        وقدم رجل من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستخبره عن أبي سفيان وأصحابه، فقال: نازلتهم فسمعتهم يتلاومون يقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكة القوم وحدهم، ثم تركتموهم ولم تبروهم؛ فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وبهم أشد القرح بطلب العدو ليسمعوا بذلك، وقال: "لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال" ، فقال عبد الله بن أبي: أنا راكب معك، فقال: "لا" ، فاستجابوا لله ورسوله على الذي بهم من البلاء، فانطلقوا، فقال الله عز وجل في كتابه: الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم .

                                        قال: وأقبل جابر بن عبد الله السلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي رجعني وقد خرجت معك لأشهد القتال، فقال: ارجع، وناشدني أن لا أترك نساءنا، وإنما أراد حين أوصاني بالرجوع رجاء الذي كان أصابه من القتل، فاستشهده الله، فأراد بي البقاء لتركته، ولا أحب أن تتوجه وجها إلا كنت معك، وقد كرهت أن يطلب معك إلا من شهد القتال، فأذن لي، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم العدو حتى بلغ حمراء الأسد، ونزل القرآن في طاعة من أطاع، ونفاق من نافق، وتعزية المسلمين وشأن مواطنهم كلها، ومخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غدا، فقال جل ثناؤه: وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم ، ثم ما بعد الآية في قصة أمرهم [ ص: 218 ] حتى بلغ: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم ، مع سبع آيات بعدها، والرهط الذين تولوا رجلان من بني زريق: سعد بن عثمان، وأخوه عقبة بن عثمان، ورجل من المهاجرين، تولوا حتى انتهوا إلى بئر حزم - وفي رواية ابن فليح إلى الجلعب - ثم عفا الله عنهم، ثم إن المسلمين استكثروا الذي أصابهم من البلاء يوم أحد، وقد كانوا أصابوا يوم بدر من المشركين ضعف ذلك، فأنزل الله عز وجل في ذلك: أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ، وآيات معها بعدها.

                                        ثم سمى موسى بن عقبة من قتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وذكر فيهم: اليمان أبا حذيفة، واسمه حسيل بن جبير، حليف لهم من بني عبس أصابه المسلمون - زعموا - في المعركة، لا يدرون من أصابه، فتصدق حذيفة بدمه على من أصابه.

                                        قال موسى بن عقبة : قال ابن شهاب: قال عروة بن الزبير : أخطأ به المسلمون يومئذ فتوشقوه بأسيافهم يحسبونه من العدو، وإن حذيفة ليقول: أبي أبي، فلم يفقهوا قوله، حتى فرغوا منه قال حذيفة: يغفر الله لكم، يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، قال: ووداه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد حذيفة عنده خيرا.

                                        قال: وجميع من استشهد من المسلمين يوم أحد من قريش والأنصار [ ص: 219 ] تسعة وأربعون رجلا، وقتل من المشركين يوم أحد ستة عشر رجلا.

                                        قد ذكرنا قصة أحد عن مغازي موسى بن عقبة رحمه الله، ولما ذكر منها شواهد في الأحاديث المتفرقة، وفي بعض تلك الأحاديث زيادات لا بد من ذكرها، ونحن نأتي عليها إن شاء الله في أبواب مترجمة بما تشتمل عليه.

                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية