الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        [ ص: 398 ] باب سياق قصة الخندق من مغازي موسى بن عقبة رحمه الله

                                        أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني، قال: حدثنا جدي، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: حدثنا محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب .

                                        (ح) وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، ببغداد، واللفظ له، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن عتاب العبدي ، قال: حدثنا القاسم بن عبد الله بن المغيرة، قال: حدثنا ابن أبي أويس، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، عن عمه موسى بن عقبة قال: خرج أبو سفيان وقريش ومن اتبعهم من مشركي العرب، معهم حيي بن أخطب، واستمدوا عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، فأقبل بمن أطاعه من غطفان، وبنو أبي الحقيق كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق سعى في غطفان وحضهم على القتال على أن لهم نصف ثمر [ ص: 399 ] خيبر، فزعموا أن الحارث بن عوف أخا بني مرة قال لعيينة بن بدر وغطفان: يا قوم أطيعوني ودعوا قتال هذا الرجل، وخلوا بينه وبين عدوه من العرب، فغلب عليهم الشيطان وقطع أعناقهم الطمع، فانقادوا لأمر عيينة بن بدر على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا إلى حلفائهم من أسد، فأقبل طليحة فيمن اتبعه من بني أسد وهما حليفان: أسد وغطفان، وكتبت قريش إلى رجال من بني سليم أشراف بينهم وبينهم أرحام، فأقبل أبو الأعور فيمن اتبعه من بني سليم مددا لقريش، فخرج أبو سفيان في آخر السنتين فيمن اتبعه من قبائل العرب، وأبو الأعور فيمن اتبعه من بني سليم، وعيينة بن بدر في جمع عظيم، فهم الذين سماهم الله الأحزاب.

                                        فلما بلغ خروجهم النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في حفر الخندق، وخرج معه المسلمون، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في العمل معهم، فعملوا مستعجلين يبادرون قدوم العدو، ورأى المسلمون إنما بطش رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم في العمل ليكون أجد لهم وأقوى لهم بإذن الله عز وجل، فجعل الرجل يضحك من صاحبه إذا رأى منه فترة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يغضب اليوم أحد من شيء ارتجز به ما لم يقل قول كعب أو حسان، فإنهما يجدان من ذلك قولا كثيرا" ، ونهاهما أن يقولا شيئا يحفظان به أحدا، فذكروا أنه عرض لهم حجر في محفرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم معولا من أحدهم فضربه به ثلاثا، فكسر الحجر في الثالثة، فزعموا أن سلمان الخير الفارسي أبصر عند كل ضربة برقة ذهبت في ثلاث وجوه، كل مرة يتبعها سلمان بصره، فذكر ذلك سلمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت كهيئة البرق، أو موج الماء، عن ضربة ضربتها يا رسول الله ذهبت إحداهن نحو المشرق، والأخرى نحو الشام، والأخرى نحو اليمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقد رأيت ذلك يا [ ص: 400 ] سلمان؟" قال: نعم، قد رأيت ذلك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنه أبيض لي في إحداهن مدائن كسرى ومدائن من تلك البلاد، وفي الأخرى مدينة الروم والشام، وفي الأخرى مدينة اليمن وقصورها، والذي رأيت النصر يبلغهن إن شاء الله" ، وكان سلمان يذكر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                        قال: وكان سلمان رجلا قويا، فلما وكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل جانب من الخندق، قال المهاجرون: يا سلمان، احفر معنا، فقال رجل من الأنصار: لا أحد أحق به منا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما سلمان منا أهل البيت" .

                                        وقال عبد الله بن عباس : لما قتل الأسود العنسي كذاب صنعاء فيروز الديلمي، وقدم قادمهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا، قالوا: يا رسول الله، من نحن؟ قال: أنتم إلينا أهل البيت ومنا.

                                        فلما قضوا حفر خندقهم، وذلك في شوال سنة أربع، وهو عام الأحزاب وعام الخندق، أقبل أبو سفيان بن حرب ومن معه من مشركي قريش ومن اتبعه من أهل الضلالة، فنزلوا بأعلى وادي قناة من تلقاء الغابة، وغلقت بنو قريظة حصنهم، وتأشموا بحيي بن أخطب وقالوا: لا تكونوا من هؤلاء القوم في شيء، فإنكم لا تدرون لمن تكون الدبرة، وقد أهلك حيي قومه فاحذروه، وأقبل حيي حتى أتى باب حصنهم، وهو مغلق عليهم، وسيد اليهود يومئذ كعب بن أسيد، فقال حيي: أثم كعب؟ قالت امرأته: ليس ها هنا، خرج لبعض حاجاته، فقال حيي: بل هو عندك، مكث على جشيشته يأكل منها، فكره أن [ ص: 401 ] أصيب معه من العشاء، فقال كعب: ائذنوا له فإنه مسؤوم، والله ما طرفنا بخير، فدخل حيي فقال: إني جئتك والله بعز الدهر إن لم تتركه علي، أتيتك بقريش وسادتها وقادتها، وسقت إليك الحليفين: أسد وغطفان، فقال كعب بن أسد: إنما مثلي ومثل ما جئت به كمثل سحابة أفرغت ما فيها ثم انطلقت، ويحك يا حيي، دعنا على عهدنا لهذا الرجل، فإني لم أر رجلا أصدق ولا أوفى من محمد وأصحابه، والله ما أكرهنا على دين، ولا غصبنا مالا، ولا ننقم من محمد وعملك شيئا، وأنت تدعو إلى الهلكة، فنذكرك الله إلا ما أعفيتنا من نفسك، فقال: والله لا أفعل ولا يختبزها محمد إلى يوم القيامة، ولا نفترق نحن وهذه الجموع حتى نهلك، وقال عمرو بن سعد القرظي: يا معشر يهود، إنكم قد حالفتم محمدا على ما قد علمتم: أن لا تخونوه، ولا تنصروا عليه عدوا، وأن تنصروه على من دهم يثرب، فأوفوا على ما عاهدتموه عليه، فإن لم تفعلوا فخلوا بينه وبين عدوه واعتزلوهم، فلم يزل بهم حيي حتى شامهم فاجتمع ملؤهم في الغد على أمر رجل واحد، غير أن بني شعية أسدا وأسيدا وثعلبة خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، زعموا: وقالت اليهود: يا حيي، انطلق إلى أصحابك، فإنا لا نأمنهم، فإن أعطونا من أشرافهم من كل من جاء معهم رهنا، فكانوا عندنا، فإذا نهضوا لقتال محمد وأصحابه خرجنا نحن فركبنا أكتافهم، فإن فعلوا ذلك فاشدد العقد بيننا وبينهم، فذهب حيي إلى قريش فعاقدوه على أن يدفعوا إليه السبعين ومزقوا صحيفة القضية التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم، ونبذوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرب وتحصنوا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فعبأ أصحابه للقتال، وقد جعلهم المشركون في مثل الحصن بين كتائبهم، فحاصروهم قريبا من عشرين ليلة، وأخذوا بكل ناحية حتى ما يدري الرجل أتم صلاته أم لا، ووجهوا نحو منزل [ ص: 402 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة يقاتلونهم يوما إلى الليل، فلما حضرت الصلاة صلاة العصر دنت الكتيبة، فلم يقدر النبي ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا فانكفأت الكتيبة مع الليل، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "شغلونا عن صلاة العصر، ملأ الله بطونهم وقبورهم نارا" .

                                        وفي رواية ابن فليح : "بطونهم وقبورهم نارا" ، فلما اشتد البلاء على النبي وأصحابه نافق ناس كثير وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه الناس من البلاء والكرب، جعل يبشرهم ويقول: "والذي نفسي بيده، ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا، وأن يدفع الله عز وجل إلي مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل" .

                                        وقال رجل ممن معه لأصحابه: ألا تعجبون من محمد؟ يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق، وأن نقسم كنوز فارس والروم، ونحن هاهنا لا يأمن أحدنا أن يذهب الغائط، والله لما يعدنا إلا غرورا.

                                        وقال آخرون ممن معه: ائذن لنا فإن بيوتنا عورة.

                                        وقال آخرون: يا أهل يثرب، لا مقام لكم فارجعوا .

                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية