الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        [ ص: 403 ] وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أخا بني عبد الأشهل، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير إلى بني قريظة ليكلموهم ويناشدوهم في حلفهم، فانطلقوا حتى أتوا باب حصن بني قريظة استفتحوا، ففتح لهم، فدخلوا عليهم، فدعوهم إلى الموادعة وتجديد الحلف فقالوا: الآن وقد كسروا جناحنا، يريدون بجناحهم المكسورة بني النضير، ثم أخرجوهم وشتموا النبي صلى الله عليه وسلم شتما، فجعل سعد بن عبادة يشاتمهم، فأغضبهم، فقال سعد بن معاذ لسعد بن عبادة: إنا والله ما جئنا لهذا، ولما بيننا أكثر من المشاتمة، ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال: إنكم قد علمتم الذي بيننا وبينكم يا بني قريظة، وأنا خائف عليكم مثل يوم بني النضير، أو أمر منه، فقالوا: أكلت أير أبيك، فقال: غير هذا من القول كان أجمل وأحسن منه، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يئسوا مما عندهم، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوههم الكراهية لما جاؤوا به، فقال: "ما وراءكم؟" فقالوا: أتيناك من عند أخابث خلق الله وأعداه لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه بالذي قالوا، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتمان خبرهم.

                                        وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وهم في بلاء شديد يخافون أشد من يوم أحد، فقالوا حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا: ما وراءك يا رسول الله؟ قال: "خير فأبشروا" ، ثم تقنع بثوبه فاضطجع ومكث طويلا، واشتد عليهم البلاء والخوف حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطجع، وعرفوا أنه لم يأته من بني قريظة خير، ثم إنه رفع رأسه فقال: "أبشروا بفتح الله ونصره" ، فلما أصبحوا دنا القوم بعضهم إلى بعض فكان بينهم رمي النبل والحجارة.

                                        قال ابن شهاب: قال سعيد بن المسيب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم [ ص: 404 ] إني أسألك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد" وأقبل نوفل بن عبد الله المخزومي، وهو من المشركين على فرس له ليقحمه الخندق، فقتله الله وكبت به المشركين، وعظم في صدورهم، وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه، فرد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله ولعن ديته، فلا أرب لنا بديته، ولسنا مانعيكم أن تدفنوه، ورمي سعد بن معاذ رمية فقطعت منه الأكحل من عضده، ورماه - زعموا - حيان بن قيس أخو بني عامر بن لؤي، ثم أحد بني العرقة، ويقول آخرون: أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم.

                                        وقال سعد بن معاذ: " رب اشفني من بني قريظة قبل الممات، فرقأ الكلم بعد ما كان قد انفجر، وصبر أهل الإيمان على ما رأوا من كثرة الأحزاب وشدة أمرهم، وزادهم يقينا لموعد الله تبارك وتعالى الذي وعدهم، ثم رجع بعضهم عن بعض، ثم إن أبا سفيان أرسل إلى بني قريظة أن قد طال ثواؤنا هاهنا، وأجدب من حولنا، فما نجد رعيا للظهر، وقد أردنا أن نخرج إلى محمد وأصحابه فيقضي الله بيننا وبينهم، فماذا ترون؟ وبعثت بذلك غطفان، فأرسلوا إليهم أن نعم ما رأيتم، فإذا شئتم فانهضوا، فإنا لا نحبسكم إذا بعثتم بالرهن إلينا.

                                        وأقبل رجل من أشجع يقال له، نعيم بن مسعود، يذيع الأحاديث، وقد سمع الذي أرسلت به قريش وغطفان إلى بني قريظة، والذي رجعوا إليهم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار إليه وذلك عشاء، فأقبل نعيم بن مسعود حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبة له تركية، ومعه نفر من أصحابه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما وراءك؟" قال: إنه والله ما لك طاقة بالقوم وقد تحزبوا عليك وهم معاجلوك، وقد بعثوا إلى بني قريظة أنه قد طال ثواؤنا، وأجدب ما حولنا، وقد أحببنا أن نعاجل محمدا وأصحابه فنستريح منهم، فأرسلت إليهم بنو قريظة أن نعم ما رأيتم، فإذا شئتم فابعثوا بالرهن ثم لا يحبسكم إلا أنفسكم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني [ ص: 405 ] مسر إليك شيئا فلا تذكره" ، قال: نعم، قال: إنهم قد أرسلوا إلي يدعونني إلى الصلح وأرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم " .

                                        فخرج نعيم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غطفان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحرب خدعة، وعسى الله أن يصنع لنا" ، فأتى نعيم غطفان فقال: إني لكم ناصح، وإني قد اطلعت على غدر يهود، تعلمون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكذب قط، وإني سمعته يحدث أن بني قريظة قد صالحوه على أن يرد عليهم إخوانهم من بني النضير إلى ديارهم وأموالهم ويدفعون إليه الرهن، ثم خرج نعيم بن مسعود الأشجعي حتى أتى أبا سفيان بن حرب وقريشا فقال: اعلموا أني قد اطلعت على غدر يهود، إني سمعت محمدا يحدث أن بني قريظة صالحوه على أن يرد عليهم إخوانهم من بني النضير إلى دورهم وأموالهم، على أن يدفعوا إليه الرهن، ويقاتلون معه، ويعيدون الكتاب الذي كان بينهم.

                                        فخرج أبو سفيان إلى أشراف قريش فقال: أشيروا علي، وقد ملوا مقامهم، وتعذرت عليهم البلاد، فقالوا: نرى أن نرجع ولا نقيم، فإن الحديث على ما حدثك نعيم، والله ما كذب محمد، وإن القوم لغدر.

                                        وقالت الرهن حين سمعوا الحديث: والله لا نأمنهم على أنفسنا، ولا ندخل حصنهم أبدا.

                                        وقال أبو سفيان: لن نعجل حتى نرسل إليهم فنتبين ما عندهم.

                                        فبعث أبو سفيان إليهم عكرمة بن أبي جهل، وفوارس، وذلك ليلة السبت، فأتوهم فكلموهم فقالوا: إنا مقاتلون غدا فاخرجوا إلينا، قالوا: إن غدا السبت، وإنا لا نقاتل فيه أبدا، فقال عكرمة: إنا لا نستطيع الإقامة، هلك الظهر والكراع، ولا نجد رعيا، فقالت اليهود: إنا لا نعمل يوم السبت عملا بالقتال، ولكن امكثوا إلى يوم الأحد، وابعثوا إلينا بالرهن، فرجع عكرمة وقد يئس من نصرهم [ ص: 406 ] واشتد البلاء والحصر على المسلمين، وشغلتهم أنفسهم فلا يستريحون ليلا ولا نهارا، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث رجلا فيخرج من الخندق فيعلم ما خبر القوم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أصحابه فقال: "هل أنت مطلع القوم؟" فاعتل فتركه، وأتى آخر فقال مثل ذلك، وحذيفة بن اليمان يسمع ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في ذلك صامت لا يتكلم مما به من الضر والبلاء، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يدري من هو فقال: "من هذا؟" قال: أنا حذيفة بن اليمان، قال: "إياك أريد أسمعت حديثي منذ الليلة ومسألتي الرجال لأبعثهم فيتخبرون لنا خبر القوم؟" قال حذيفة: والذي بعثك بالحق إنه لبأذني، قال: "فما منعك أن تقوم حين سمعت كلامي؟" قال: الضر والجوع، فلما ذكر الجوع ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قم حفظك الله من أمامك، ومن خلفك، ومن فوقك، ومن تحتك، وعن يمينك، وعن شمالك، حتى ترجع إلينا" ، فقام حذيفة مستبشرا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه احتمل احتمالا، فما شق من جوع، ولا خوف، ولا درى شيئا مما أصابه قبل ذلك من البلاء، فانطلق حتى أجاز الخندق من أعلاه، فجلس بين ظهري المشركين، فوجد أبا سفيان قد أمرهم أن يوقدوا النيران وقال: ليعلم كل امرئ من جليسه، فقبض حذيفة على يد رجل عن يمينه فقال: من أنت؟ قال: أنا فلان، وقبض يد رجل عن يساره قال: من أنت؟ قال: أنا فلان، وبدرهم بالمسألة خشية أن يفطنوا له.

                                        ثم إن أبا سفيان أذن بالرحيل، فارتحلوا وحملوا الأثقال فانطلقت، ووقفت الخيل ساعة من الليل، ثم انطلقت، وسمعت غطفان الصياح والإرصاء من قبل قريش، فبعثوا إليهم، فأتاهم الخبر برحيلهم، فانقشعوا لا يلوون على شيء، وقد كان الله عز وجل قبل رحيلهم قد بعث عليهم بالريح بضع عشرة ليلة، حتى ما خلق الله لهم بيتا يقوم، ولا رمحا، حتى ما كان في الأرض منزل أشد عليهم ولا أكره إليهم من منزلهم ذلك، فأقشعوا والريح أشد ما كانت، معها جنود الله لا ترى كما قال الله عز وجل [ ص: 407 ] ورجع حذيفة ببيان خبر القوم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج محمد بن مسلمة وأصحابه فقتلوا كعب بن الأشرف، فلم يزل قائما يصلي حتى فرغوا منه وسمع التكبير، ولما دنا حذيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يدنو حتى ألصق ظهره برجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثنا ثوبه حتى دفئ، ثم انصرف إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن القوم، فأخبره الخبر، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد فتح الله عز وجل لهم، وأقر أعينهم، فرجعوا إلى المدينة شديدا بلاؤهم مما لقوا من محاصرة العدو، وكانوا حاصروهم في شتاء شديد، فرجعوا مجهودين فوضعوا السلاح " وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا أبو جعفر البغدادي ، قال: حدثنا أبو علاثة محمد بن عمرو بن خالد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا ابن لهيعة ، قال: حدثنا أبو الأسود، عن عروة، فذكر هذه القصة بمعنى ما ذكر موسى بن عقبة .

                                        ولما ذكرا في مغازيهما من هذه القصة شواهد في الأحاديث الموصولة، وفي مغازي محمد بن إسحاق بن يسار ، ونحن نذكرها بعون الله تعالى مفرقه في أبواب.

                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية