فالأول قال الخليل : كل شيء يعقب شيئا فهو عقيبه ، كقولك خلف يخلف ، بمنزلة الليل والنهار إذا مضى أحدهما عقب الآخر . وهما عقيبان ، كل واحد منهما [ ص: 78 ] عقيب صاحبه . ويعقبان ، إذا جاء الليل ذهب النهار ، فيقال عقب الليل النهار وعقب النهار الليل . وذكر ناس من أهل التفسير في قوله - تعالى - : له معقبات من بين يديه ومن خلفه قال : يعني ملائكة الليل والنهار ، لأنهم يتعاقبون . ويقال إن العقيب الذي يعاقب آخر في المركب ، وقد أعقبته ، إذا نزلت ليركب . ويقولون : عقب علي في تلك السلعة عقب ، أي أدركني فيها درك . والتعقبة : الدرك .
ومن الباب : عاقبت الرجل معاقبة وعقوبة وعقابا . واحذر العقوبة والعقب . وأنشد :
فنعم والي الحكم والجار عمر لين لأهل الحق ذو عقب ذكر
ويقولون : إنها لغة بني أسد . وإنما سميت عقوبة لأنها تكون آخرا وثاني الذنب . وروي عن [ ابن ] الأعرابي : المعاقب الذي أدرك ثأره . وإنما سمي بذلك للمعنى الذي ذكرناه . وأنشد :
ونحن قتلنا بالمخارق فارسا جزاء العطاس لا يموت المعاقب
أي أدركنا بثأره قدر ما بين العطاس والتشميت . ومثله :
[ ص: 79 ]
فقتل بقتلانا وجز بجزنا جزاء العطاس لا يموت من اتأر
كنت أخي في العقب النوائب
ويقال : استعقب فلان من فعله خيرا أو شرا ، واستعقب من أمره ندما ، وتعقب أيضا . وتعقبت ما صنع فلان ، أي تتبعت أثره . ويقولون : ستجد عقب الأمر كخير أو كشر ، وهو العاقبة .
ومن الباب قولهم للرجل المنقطع الكلام : لو كان له عقب تكلم ، أي لو كان عنده جواب . و قالوا في قول عمر :
فلا مال إلا قد أخذنا عقابه ولا دم إلا قد سفكنا به دما
قال : عقابه ، أراد عقباه وعقبانه . ويقال : فلان وفلان يعتقبان فلانا ، إذا تعاونا عليه .
قال الشيباني : إبل معاقبة : ترعى الحمض مرة ، والبقل أخرى . ويقال : العواقب من الإبل ما كان في العضاه ثم عقبت منه في شجر آخر . قال : العواقب من الإبل التي تداخل الماء تشرب ثم تعود إلى المعطن ثم تعود إلى الماء وأنشد يصف إبلا : ابن الأعرابي
روابع خوامس عواقب
وقال أبو زياد : المعقبات : اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل التي تعترك على [ ص: 80 ] الحوض ، فإذا انصرفت ناقة دخلت مكانها أخرى ، والواحدة معقبة . قال :
الناظرات العقب الصوادف
وقالوا : وعقبة الإبل : أن ترعى الحمض [ مرة ] والخلة أخرى . وقال : ذو الرمة
ألهاه آء وتنوم وعقبته من لائح المرو والمرعى له عقب
قال الخليل : عقبت الرجل ، أي صرت عقبه أعقبه عقبا . ومنه سمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " العاقب " لأنه عقب من كان قبله من الأنبياء - عليهم السلام - . وفعلت ذلك بعاقبة ، كما يقال بآخرة . قال :
أرث حديث الوصل من أم معبد بعاقبة وأخلفت كل موعد
وحكي عن : رأيت عاقبة من الطير ، أي طيرا يعقب بعضها بعضا ، تقع هذه مكان التي قد كانت طارت قبلها . قال الأصمعي أبو زيد : جئت في عقب الشهر وعقبانه ، أي بعد مضيه ، العينان مضمومتان . قال : وجئت في عقب الشهر وعقبه و في عقبه . قال :
[ وقد ] أروح عقب الإصدار مخترا مسترخي الإزار
[ ص: 81 ] قال الخليل : جاء في عقب الشهر أي آخره; وفي عقبه ، إذا مضى ودخل شيء من الآخر . ويقال : أخذت عقبة من أسيري ، وهو أن تأخذ منه بدلا . قال :
لا بأس إني قد علقت بعقبة
وهذا عقبة من فلان أي أخذ مكانه . وأما قولهم عقبة القمر . . . . . . . .
ومن الباب قولهم : عقبة القدر ، وهو أن يستعير القدر فإذا ردها ترك في أسفلها شيئا . وقياس ذلك أن يكون آخر ما في القدر ، أو يبقى بعد أن يغرف منها . قال : ابن دريد
إذا عقب القدور يكن مالا تحب حلائل الأقوام عرسي
وقال : الكميت
. . . . . . . . . . . . . . . ولم يكن لعقبة قدر المستعيرين معقب
ومما ذكره الخليل أن المعقاب : المرأة التي تلد ذكرا بعد أنثى ، وكان ذلك عادتها . وقال أبو زيد : ليس لفلان عاقبة ، يعني عقبا . ويقال عقب للفرس جري بعد جري ، أي شيء بعد شيء . قال امرؤ القيس :
[ ص: 82 ]
على العقب جياش كأن اهتزامه إذا جاش منه حميه غلي مرجل
وقال الخليل : كل من ثنى شيئا فهو معقب قال لبيد :
حتى تهجر للرواح وهاجها طلب المعقب حقه المظلوم
وفي القرآن : ولى مدبرا ولم يعقب ، أي لم يعطف . والتعقيب ، غزوة بعد غزوة . قال طفيل :
وأطنابه أرسان جرد كأنها صدور القنا من بادئ ومعقب
ويقال : عقب فلان في الصلاة ، إذا قام بعد ما يفرغ الناس من الصلاة في مجلسه يصلي .
ومن الباب عقب القدم : مؤخرها ، وفي المثل : " ابنك من دمى عقبيك " ، وكان أصل ذلك في عقيل بن مالك ، وذلك أن كبشة بنت عروة الرحال تبنته ، فعرم عقيل على أمه يوما فضربته ، فجاءتها كبشة تمنعها ، فقالت : ابني ابني ، فقالت القينية - وهي أمة من بني القين - : " ابنك من دمى عقبيك " ، أرى ابنك هو الذي نفست به وولدته حتى أدمى النفاس عقبيك ، لا هذا .
[ ص: 83 ] ومن كلامهم في العقوبة والعقاب ، قال امرؤ القيس :
وبالأشقين ما كان العقاب
ويقال : أعقب فلان ، أي رجع ، والمعنى أنه جاء عقيب مضيه . قال لبيد :
فجال ولم يعقب بغضف كأنها دقاق الشعيل يبتدرن الجعائلا
قال الدريدي : المعقب : نجم يعقب نجما آخر ، أي يطلع بعده . قال :
كأنها بين السجوف معقب
ومن الباب قولهم : عليه عقبة السرو والجمال ، أي أثره . قال : وقوم عليهم عقبة السرو . . . . . وإنما قيل ذلك لأن أثر الشيء يكون بعد الشيء .
ومما يتكلمون به في مجرى الأمثال قولهم : " من أين جاءت عقبك " أي من أين جئت . و " فلان موطأ العقب " أيكثير الأتباع . ومنه حديث عمار : " اللهم إن كان كذب فاجعله موطأ العقب " . دعا أن يكون سلطانا يطأ الناس عقبه ، أي يتبعونه ويمشون وراءه ، أو يكون ذا مال فيتبعونه لماله . قال :
عهدي بقيس وهم خير الأمم
لا يطؤون قدما على قدم
[ ص: 84 ] أي إنهم قادة يتبعهم الناس ، وليسوا أتباعا يطؤون أقدام من تقدمهم .
وأما قول النخعي : " المعتقب ضامن لما اعتقب " فالمعتقب : الرجل يبيع الرجل شيئا فلا ينقده المشتري الثمن ، فيأبى البائع أن يسلم إليه السلعة حتى ينقده ، فتضيع السلعة عند البائع . يقول : فالضمان على البائع . وإنما سمي معتقبا لأنه أتى بشيء بعد البيع ، وهو إمساك الشيء .
ويقولون : اعتقبت الشيء ، أي حبسته .
ومن الباب : الإعقابة : سمة مثل الإدبارة ، ويكون أيضا جلدة معلقة من دبر الأذن .
وأما الأصل الآخر فالعقبة : طريق في الجبل ، وجمعها عقاب . ثم رد إلى هذا كل شيء فيه علو أو شدة . قال : البئر تطوى فيعقب وهي أواخرها بحجارة من خلفها . يقال أعقبت الطي . وكل طريق يكون بعضه فوق بعض فهي أعقاب . ابن الأعرابي
قال : المعقب : الذي يعقب طي البئر : أن يجعل الحصباء ، والحجارة الصغار فيها وفي خللها ، لكي يشد أعقاب الطي . قال : الكسائي
شدا إلى التعقيب من ورائها
قال أبو عمرو : العقاب : الخزف الذي يدخل بين الآجر في طي البئر لكي تشتد .
وقال الخليل : العقاب مرقى في عرض جبل ، وهو ناشز . ويقال : العقاب : [ ص: 85 ] حجر يقوم عليه الساقي ، ويقولون إنه أيضا المسيل الذي يسيل ماؤه إلى الحوض . وينشد :
كأن صوت غربها إذا انثعب سيل على متن عقاب ذي حدب
ومن الباب ما حكاه أبو زيد : عقب العرفج يعقب أشد العقب . وعقبه أن يدق عوده وتصفر ثمرته ، ثم ليس بعد ذلك إلا يبسه .
ومن الباب : العقاب من الطير ، سميت بذلك لشدتها وقوتها ، وجمعه أعقب وعقبان ، وهي من جوارح الطير . ويقال عقاب عقبناة ، أي سريعة الخطفة . قال :
عقاب عقبناة كأن وظيفها وخرطومها الأعلى بنار ملوح
خرطومها : منسرها . ووظيفها : ساقها . أراد أنهما أسودان .
[ ص: 86 ] ثم شبهت الراية بهذه العقاب ، كأنها تطير كما تطير .